الذين يجادلون} وهو مبتدأ أي : يخاصمون خصاماً شديداً ﴿في آيات الله﴾ أي : المحيط بأوصاف الكمال لاسيما الآيات الدالة على يوم التناد فإنها أظهر الآيات، وكذا الآيات الدالة على وجوده سبحانه وتعالى وعلى ما هو عليه من الصفات والأفعال وما يجوز عليه أو يستحيل ﴿بغير سلطان﴾ أي : برهان ﴿أتاهم﴾ وقوله :﴿كبر﴾ أي : جدالهم ﴿مقتاً﴾ خبر المبتدأ ويجوز في الذين أوجه أيضاً منها : أنه بدل من قوله تعالى :﴿من هو مسرف﴾ وإنما جمع اعتباراً بمعنى من، ومنها : أن يكون بياناً له، ومنها : أن يكون صفة له وجمع على معنى من أيضاً، ومنها أن ينصب بإضمار أعني، وقال الزجاج قوله :﴿الذين يجادلون﴾ تفسير لمسرف مرتاب يعني هم الذين يجادلون في آيات الله أي : في إبطالها بالتكذيب بغير سلطان أتاهم كبر مقتاً ﴿عند الله﴾ أي : الملك الأعظم ﴿و﴾ كبر مقتاً أيضاً ﴿عند الذين آمنوا﴾ أي : الذين هم خاصته، ودلت الآية على أنه يجوز وصفه تعالى بأنه مقت بعض عباده إلا أنها صفة واجبة التأويل في حق الله تعالى كالغضب والحياء والعجب وقوله تعالى :﴿كذلك﴾ أي : ومثل هذا الطبع العظيم ﴿يطبع الله﴾ أي : الذي له جميع العظمة يدل على أن الكل من عند الله كما هو مذهب أهل السنة ﴿على كل قلب متكبر﴾ أي : متكلف ما ليس له وليس لأحد غير الله ﴿جبار﴾ أي : ظاهر الكبر قويه قهار، وقال مقاتل : الفرق بين المتكبر والجبار أن المتكبر عن قبول التوحيد والجبار في غير الحق، قال الرازي : كما أن السعادة في أمرين التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله، فعلى قول مقاتل المتكبر كالمضاد للتعظيم لأمر الله والجبار كالمضاد للشفقة على خلق الله، وقرأ أبو عمرو وابن ذكوان : بتنوين الباء الموحدة، ووصف القلب بالتكبر والتجبر لأنه منبعهما كقولهم : رأت عيني وسمعت أذني أو على حذف مضاف أي : على كل ذي قلب متكبر جبار فهي حينئذ مساوية لقراءة الباقين بغير تنوين ثم إن فرعون عليه اللعنة أعرض عن جواب المؤمن لأنه لم يجد فيه مطعناً.
﴿وقال فرعون يا هامان﴾ وهو وزيره ﴿ابن﴾ وعرفه بشدة اهتمامه بالإضافة إليه في قوله ﴿لي صرحاً﴾ أي : بناء مكشوفاً عالياً لا يخفى على الناظر وإن بعد، من صرح الشيء إذا ظهر ﴿لعلي أبلغ الأسباب﴾ أي : التي لا أسباب غيرها لعظمها، وتعليله بالترجي الذي لا يكون إلا في الممكن دليل على أنه كان يلبس على قومه وهو يعرف الحق فإن عاقلاً لا يعد ما رامه في عداد الممكن العادي.
ولما كان بلوغها أمراً عظيماً أورده على نمط مشوق إليه ليعطيه السامع حقه من الاهتمام تفخيماً لشأنه ليتشوف السامع إلى بنائه بقوله :﴿أسباب السموات﴾ أي : الأمور الموصلة إليها وكل ما أداك إلى شيء فهو سبب إليه، وقرأ الكوفيون بسكون الياء والباقون بالفتح وقرأ ﴿فاطلع﴾ حفص بنصب العين وفيه ثلاثة أوجه ؛ أحدها : أنه جواب الأمر في قوله ابن لي فنصب بأن مضمرة بعد الفاء في جوابه على قاعدة البصريين كقوله :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٧٧
يا ناق سيري عنقاً فسيحاً ** إلى سليمان فنستريحا*
٥٧٨
وهذا أوفق لمذهب البصريين، ثانيها : قال أبو حيان : أنه منصوب على التوهم لأن خبر لعل جاء مقروناً بأن كثيراً في النظم وقليلاً في النثر، فمن نصب توهم أن الفعل المرفوع الواقع خبراً منصوب بأن والعطف على التوهم كثير وإن كان لا ينقاس، ثالثها : على جواب الترجي في لعل وهو مذهب كوفي وإلى هذا نحا الزمخشري وتبعه البيضاوي قال : وهو الأولى تشبيهاً للترجي بالتمني والباقون عطفاً على أبلغ أي : فلعله يتسبب عن ذلك ويتعقبه أني أتكلف الطلوع ﴿إلى إله موسى﴾ ولعله أراد أن يبني له صرحاً في موضع عال يرصد فيه أحوال الكواكب التي هي أسباب سماوية تدل على الحوادث الأرضية فيرى هل فيها ما يدل على إرسال الله تعالى إياه أو أن يرى فساد قول موسى، فإن أخباره عن إله السماء يتوقف على اطلاعه ووصوله إليه وذلك لا يتأتى إلا بالصعود إلى السماء وهو مما لا يقوى عليه الإنسان وذلك لجهله بالله تعالى وكيفية أسبابه ﴿وإني لأظنه﴾ أي : موسى عليه السلام ﴿كاذباً﴾ في دعوى الرسالة وفي أن له إلهاً غيري قال فرعون : ذلك تمويهاً ﴿وكذلك﴾ أي : مثل ذلك التزيين العظيم الشأن ﴿زين﴾ أي : زين المزين النافذ الأمر وهو الله تعالى حقيقة بخلقه وإلزامه لأن كل ما دخل في الوجود من المحدثات فهو خلقه والشيطان مجازاً بالتسبب بالوسوسة التي هي بخلق الله تعالى ﴿لفرعون سوء عمله﴾ في جميع أمره فأقبل عليه راغباً فيه مع بعده عن عقل أقل ذوي العقول فضلاً عن ذوي الهمم منهم فضلاً عن الملوك وأطاعه فيه قومه وقرأ غير الكوفيين ﴿وصد﴾ بفتح الصاد أي : نفسه ومنع غيره، وقرأ الكوفيون بضمها أي : منعه الله تعالى ﴿عن السبيل﴾ أي : طريق الهدى وهي الموصلة إلى الله تعالى ﴿وما كيد فرعون﴾ أي : في إبطال ما جاء به موسى عليه السلام ﴿إلا في تباب﴾ أي : خسار وهلاك عظيم محيط به لا يقدر على الخروج منه.


الصفحة التالية
Icon