﴿الذي خلقني﴾ أي : أوجدني على هيئة التقدير والتصوير ﴿فهو﴾ أي : فتسبب عن تفرده بخلقي أنه هو لا غيره ﴿يهدين﴾ أي : إلى الرشاد ولا يعلم باطن المخلوق ويقدر على التصرف فيه غير خالقه ولا يكون خالقه إلا سميعاً بصيراً ضاراً نافعاً له الكمال كله وذكر الخلق بالماضي لأنه لا يتجدد في الدنيا، والهداية بالمضارعة لتجددها وتكرّرها، لأنه تعالى لما أتم خلقه ونفخ فيه الروح عقب ذلك هدايته المتصلة التي لا تنقطع إلى كل ما يصلحه ويعينه وإلا فمن هداه إلى أن يتغذى بالدم في البطن امتصاصاً ؟
ومن هداه إلى معرفة الثدي عند الولادة وإلى معرفة مكانه ؟
ومن هداه لكيفية الارتضاع إلى غير ذلك ديناً ودنياً.
﴿والذي﴾ أي :﴿هو﴾ لا غيره ﴿يطعمني ويسقين﴾ أي : يرزقني ويغذيني بالطعام والشراب ولو أراد أعدم ما آكل وما أشرب أو أصابني بآفة لا أستطيع معها أكلاً ولا شرباً، ونبه بذكر الطعام والشراب على ما عداهما.
تنبيه : يجوز في والذي يطعمني ويسقين أن يكون مبتدأ وخبره محذوف لدلالة ما قبله عليه وكذا الذي بعده، ويجوز أن تكون أوصافاً للذي خلقني ودخول الواو جائز كقوله :
*إلى الملك القرم وابن الهمام ** وليث الكتيبة في المزدحم*
وتكرير الموصول على الوجهين للدلالة على أن كل واحدة من الصلات مستقلة باقتضاء الحكم.
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٤
وإذا مرضت﴾
أي : باستيلاء بعض الأخلاط على بعض لما بينهما من التنافر الطبيعي ﴿فهو﴾ أي : وحده ﴿يشفين﴾ أي : بسبب تعديل المزاج بتعديل الأخلاط وقسرها عن الاجتماع لا بطبيب ولا غيره.
فإن قيل : لم أضاف المرض إلى نفسه مع أنّ المرض والشفاء من الله تعالى ؟
أجيب : بأنه قال ذلك استعمالاً لحسن الأدب كما قال الخضر عليه السلام ﴿فأردت أن أعيبها﴾ (الكهف : ٧٩)
وقال ﴿فأراد ربك أن يبلغا أشدهما﴾ (الكهف، ٨٢)، وأجاب الرازي بأنّ أكثر أسباب المرض محدث بتفريط الإنسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك، ومن ثم قال الحكماء لو قيل لأكثر الموتى ما سبب آجالكم لقالوا التخم، وبأنّ الشفاء محبوب وهو من أصول النعم والمرض مكروه وليس من النعم، وكان مقصود إبراهيم عليه السلام تعديد النعم ولما لم يكن المرض من النعم لا جرم لم يضفه إلى الله تعالى ولا ينتقض ذلك بإسناد الإماتة إليه كما سيأتي، فإنّ الموت ليس بضرّ لأنّ شرط كونه ضرّاً وقوع الإحساس به وحال الموت لا يحصل الإحساس به إنما الضرر في مقدماته وذلك هو عين المرض، ولأنّ الأرواح إذا كملت في العلوم والأخلاق كان بقاؤها في هذه الأجساد عين الضرر وخلاصها عنها عين السعادة بخلاف المرض.
﴿والذي يميتني﴾ يقبض روحي في الدنيا ليخلصني من آفاتها ﴿ثم يحيين﴾ للمجازاة في الآخرة كما شفاني من المرض، ولهذا التراخي بين الموت والإحياء أتى بثم هنا لأنّ الإماتة في الدنيا والإحياء في الآخرة.
٥٨
ولما ذكر البعث ذكر ما يترتب عليه بقوله :
﴿والذي أطمع﴾ هضماً لنفسه وإطراحاً لأعماله ﴿أن يغفر﴾ أي : يمحو أو يستر ﴿لي خطيئتي﴾ أي : تقصيري عن أن أقدره حق قدره ﴿يوم الدين﴾ أي : الجزاء.
روي أنّ عائشة قالت قلت يا رسول الله : إنّ ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذلك نافعه ؟
قال :"لا ينفعه، إنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين" وهذا كله احتجاج من إبراهيم على قومه أنه لا يصلح للإلهية إلا من يفعل هذه الأفعال.
فإن قيل : لم قال والذي أطمع والطمع عبارة عن الظنّ والرجاء وهو عليه السلام كان قاطعاً بذلك ؟
أجيب : بأنّ في ذلك إشارة إلى أن الله تعالى لا يجب عليه لأحد شيء، فإنه يحسن منه تعالى كل شيء ولا اعتراض لأحد عليه في فعله.
فإن قيل : لم أسند لنفسه الخطيئة مع أنّ الأنبياء معصومون ؟
أجيب : بأنّ مجاهداً قال هي قوله : إني سقيم وقوله : بل فعله كبيرهم هذا وقوله : لسارة هي أختي، ورد بأن هذه معاريض كلام وتخيلات للكفرة وليست بخطايا يطلب لها الاستغفار، والأولى في الجواب أن استغفار الأنبياء تواضع منهم لربهم وهضم لأنفسهم، ويدل عليه قوله : أطمع ولم يجزم القول بالمغفرة، وفيه تعليم لأممهم وليكون لطفاً لهم باجتنابهم المعاصي والحذر منها وطلب المغفرة مما يفرط منهم، فإن قيل : لم علق مغفرة الخطيئة بيوم الدين وإنما المغفرة في الدنيا ؟
أجيب : بأنّ أثرها يتبين يومئذ وهو الآن خفي لا يعلم، ولما حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام ثناء عليه ذكر بعد ذلك دعاءه ومسألته بقوله.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٤


الصفحة التالية
Icon