﴿ولقد آتينا﴾ أي : بما لنا من العزة ﴿موسى الهدى﴾ أي : ما يُهتَدَى به في الدنيا من المعجزات والصحف والشرائع ﴿وأورثنا﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿بني إسرائيل﴾ أي : بعدما كانوا فيه من الذل ﴿الكتاب﴾ أي : الذي أنزلناه عليه وآتيناه الهدى به وهو التوراة إيتاء هو الإرث لا ينازعهم فيه أحد توارثوه خلفاً عن سلف ولا أهل له في ذلك الزمان غيرهم وأورثناه لهم من بعد موسى عليه السلام حال كونه.
﴿هدى﴾ أي : بياناً عاماً لكل من تبعه ﴿وذكرى﴾ أي : عظة عظيمة ﴿لأولي الألباب﴾ أي : القلوب الصافية والعقول الوافية الشافية.
٥٨٤
ولما بين تعالى أنه ينصر رسله وينصر المؤمنين في الدنيا والآخرة وضرب المثال في ذلك بحال موسى عليه السلام خاطب بعد ذلك محمداً ﷺ بقوله تعالى :
﴿فاصبر﴾ أي : يا أشرف الخلق على أذى قومك كما صبر موسى عليه السلام على أذى فرعون ﴿إن وعد الله﴾ أي : الذي له الكمال كله ﴿حق﴾ أي : في إظهار دينك وإهلاك أعدائك قال الكلبي : نسخت آية القتل آية الصبر، وقوله تعالى :﴿واستغفر لذنبك﴾ إما أن يكون المصدر مضافاً للمفعول أي : لذنب أمتك في حقك، وإما أن يكون ذلك تعبداً من الله تعالى ليزيده به درجة وليصير سنة يستن به من بعده ﴿وسبح بحمد ربك بالعشي﴾ هو من بعد الزوال ﴿والإبكار﴾ قال الحسن رضي الله عنه : يعني صلاة العصر وصلاة الفجر. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : الصلوات الخمس وذلك أن العشي من زوال الشمس إلى غروبها والإبكار من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، ولما ابتدأ بالرد على الذين يجادلون في آيات الله واتصل الكلام بعضه ببعض على الترتيب المتقدم إلى هنا نبه تعالى على الماهية التي تحمل الكفار على تلك المجادلة فقال تعالى :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٨٣
إن الذين يجادلون﴾
أي : يناصبون العداوة ﴿في آيات الله﴾ أي : الملك الأعظم الدالة على تمام قدرته اللازم منه قدرته على البعث الذي في تذكره صلاح الدين والدنيا ﴿بغير سلطان﴾ أي : برهان ﴿أتاهم أن﴾ أي : ما ﴿في صدورهم﴾ أي : بصدهم عن سواء السبيل، قال ابن عادل : ما حملهم على تكذيبك ﴿إلا كبر﴾ أي : تكبر عن الحق وتعظم عن التفكير والتعلم وآذن ذكر الصدور دون القلوب بعظمه جداً فإنه قد ملأ القلوب وفاض منها حتى شغل الصدور التي هي مساكنها ﴿ما هم ببالغيه﴾ قال مجاهد : ما هم ببالغي مقتضى ذلك الكبر لأن الله تعالى مذلهم، وقال ابن قتيبة : إن في صدورهم إلا كبر على محمد ﷺ وطمع أن يغلبوه وما هم ببالغي ذلك، قال المفسرون : نزلت في اليهود وذلك أنهم قالوا للنبي ﷺ "إن صاحبنا المسيح بن داود يعنون الدجال يخرج في آخر الزمان فيبلغ سلطانه البر والبحر ويرد الملك علينا" قال الله تعالى :﴿فاستعذ﴾ أي : اعتصم ﴿بالله﴾ أي : المحيط بكل شيء من فتنة الدجال ومن كيد من يحسدك ويبغى عليك وغير ذلك كما عاذ به موسى عليه السلام لينجز لك ما وعدك به كما أنجز له ثم علل ذلك بقوله تعالى :﴿إنه هو﴾ أي : وحده ﴿السميع﴾ أي : لأقوالهم ﴿البصير﴾ أي : لأفعالهم.
ولما وصف تعالى جدالهم في الآيات بأنه بغير سلطان ولا حجة ذكر لهذا مثالاً فقال :
﴿لخلق السموات﴾ أي : على عظمها وارتفاعها وكثرة منافعها واتساعها ﴿والأرض﴾ أي : على ما ترون من عجائبها وكثرة منافعها ﴿أكبر﴾ عند كل من يعقل ﴿من خلق الناس﴾ أي : خلق الله تعالى لهم لأنهم شعبة يسيرة من خلقهما فعلم قطعاً أن الذي قدر على ابتدائه مع عظمه قادر على إعادة الناس على حقارتهم ﴿ولكن أكثر الناس﴾ وهم الذين ينكرون البعث وغيره ﴿لا يعلمون﴾ أي : لا علم لهم أصلاً بل هم كالبهائم لغلبة الغفلة عليهم.
تنبيه : تقدير هذا الكلام أن الاستدلال بالشيء على غيره ينقسم ثلاثة أقسام ؛ أحدها : أن يقال لما قدر على الأضعف وجب أن يقدر على الأقوى وهذا فاسد. ثانيها : أن يقال لما قدر على الشيء قدر على مثله فهذا الاستدلال صحيح لما ثبت في الأصول أن حكم الشيء حكم مثله. ثالثها : أن يقال لما قدر على الأقوى الأكمل قدر على الأقل الأرذل بالأولى، وهذا الاستدلال في غاية الصحة والقوة ولا يرتاب فيه عاقل البتة ثم إن هؤلاء القوم يسلمون أن خالق السموات
٥٨٥
والأرض هو الله تعالى ويعلمون بالضرورة أن خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس، وكان من حقهم أن يقروا بأن القادر على خلق السموات والأرض يكون قادراً على إعادة الإنسان الذي خلقه أولاً فهذا برهان كلي في إفادة هذا المطلوب، ثم إن هذا البرهان على قوته صار لا يعرفه أكثر الناس، والمراد منه : الذين ينكرون الحشر والنشر فظهر بهذا المثال أن هؤلاء الكفار يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم ولا حجة بل بمجرد الحسد والكبر والغضب.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٨٣


الصفحة التالية
Icon