تنبيه : معنى الآية أن الله تعالى قال لنبيه محمد ﷺ أنت كالرسل من قبلك وقد ذكرنا حال بعضهم لك ولم نذكر حال الباقين وليس منهم أحد أعطاه الله آيات ومعجزات إلا وقد جادله قومه وكذبوه فيها فصبروا وكانوا أبداً يقترحون على أنبيائهم عليهم السلام إظهار المعجزات الزائدة على الحاجة عناداً وعبثاً، وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله تعالى والله سبحانه علم الصلاح في إظهار ما أظهروه دون غيره ولم يقدح ذلك في نبوتهم، فكذلك الحال في اقتراح قومك عليك المعجزات الزائدة لما لم يكن إظهارها صلاحاً لا جرم ما أظهرناها ﴿فإذا جاء أمر الله﴾ أي : المحيط بكل شيء قدرة وعلماً بنزول العذاب على الكفار ﴿قُضِي﴾ أي : بأمره على أيسر وجه وأسهله بين الرسل ومكذبيهم ﴿بالحق﴾ الأمر الثابت ﴿وخسر هنالك﴾ أي : في ذلك الوقت العظيم ﴿المبطلون﴾ أي : المنسوبون إلى إيثار الباطل على الحق المعاندون الذين يجادلون في آيات الله، فيقترحون المعجزات الزائدة على قدر الحاجة تعنتاً وعبثاً، وقرأ قالون والبزي وأبو عمرو بإسقاط الهمزة الأولى مع المد والقصر، وسهل ورش وقنبل الهمزة الثانية وأبدلاها أيضاً ألفاً، وقرأ الباقون بتحقيق الهمزتين.
٥٩٤
ولما ذكر الله تعالى الوعيد عاد إلى ذكر ما يدل على وجود الإله القادر الحكيم، وإلى ذكر ما يصلح أن يعد إنعاماً على العباد فقال تعالى :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٩٤
الله﴾ أي : الملك الأعظم ﴿الذي جعل لكم﴾ أي : لا غيره ﴿الأنعام﴾ أي : الأزواج الثمانية بالتذلل والتسخير، وقال الزجاج : الأنعام الإبل خاصة ﴿لتركبوا منها﴾ وهي الإبل مع قوتها ونفرتها وقد تركب البقر أيضاً ﴿ومنها﴾ أي : من الأنعام كلها ﴿تأكلون﴾ ولما كان التصرف فيها غير منضبط أجمله بقوله تعالى :
﴿ولكم فيها﴾ أي : كلها ﴿منافع﴾ أي : كثيرة بغير ذلك من الدر والوبر والصوف وغيرها ﴿ولتبلغوا عليها﴾ وهي في غاية الذل والطواعية ونبههم على نقصهم وعظم نعمته عليهم بقوله تعالى :﴿حاجة﴾ أي : جنس الحاجة، وقوله تعالى :﴿في صدوركم﴾ إشارة إلى أن حاجة واحدة ضاقت عنها قلوب الجميع حتى فاضت منها فملأت مساكنها ﴿وعليها﴾ أي : الإبل في البر ﴿وعلى الفلك﴾ أي : في البحر ﴿تحملون﴾ أي : تحملون أمتعتكم الثقيلة من مكان إلى مكان آخر وأما حمل الإنسان نفسه فقد مر بالركوب، فإن قيل : لِمَ لم يقل وفي الفلك كما قال تعالى في سورة هود :﴿قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين﴾ (هود : ٤٠)
أجيب : بأن كلمة على للاستعلاء فالشيء الذي يوضع على الفلك كما صح أن يقال وضع فيه صح أن يقال وضع عليه، ولما صح الوجهان كانت لفظة على أولى حتى تتم المزاوجة في قوله تعالى ﴿وعليها وعلى الفلك تحملون﴾ (المؤمنون : ٢٢)
وقال بعضهم : أن لفظ فيها هناك أليق لأن سفينة نوح عليه السلام كما قيل مسبقة عليهم وهي محيطة بهم كالوعاء وأما غيرها فالاستعلاء فيه واضح لأن الناس على ظهرها.
ولما كانت هذه آية عظيمة جعلها الله سبحانه وتعالى مشتملة على آيات كثيرة قال تعالى :
﴿ويريكم﴾ أي : في كل لحظة ﴿آياته﴾ أي : دلائل قدرته ﴿فأي آيات الله﴾ أي : المحيط بصفات الكمال الدالة على وحدانيته ﴿تنكرون﴾ حتى تتوجه لكم المجادلة في آياته وهذا استفهام توبيخ.
تنبيه : أي : منصوب بتنكرون وقدم وجوباً لأن له صدر الكلام وتذكيره أشهر من تأنيثه، قال الزمخشري : وقولك فأية آيات الله قليل لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات نحو حمار وحمارة غريب وهو في أي : أغرب لإبهامه، قال أبو حيان : ومن قلة تأنيث أي : قول الشاعر :
*بأي كتاب أم بأية سنة ** ترى حبهم عاراً علي وتحسب*
قال ابن عادل : وقوله وهو في أي أغرب إن عني أياً على الإطلاق فليس بصحيح ؛ لأن المستفيض في النداء أن تؤنث في نداء المؤنث كقوله تعالى :﴿يا أيتها النفس المطمئنة﴾ (الفجر : ٢٧)
ولا نعلم أحداً ذكر تذكيرها فيه فيقول : يا أيها المرأة إلا صاحب "البديع في النحو" وإن عني غير المناداة فكلامه صحيح، يقل تأنيثها في الاستفهام وموصولة وشرطية.
٥٩٥
ولما وصل الأمر إلى حد من الوضوح لا يخفى على أحد تسبب عنه لفت الخطاب عنهم دلالة على الغضب الموجب للعقاب المقتضي للرهب فقال تعالى :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٩٤