ولما قطع حجتهم وأزال علتهم تسبب عن ذلك قوله ﷺ ﴿فاستقيموا إليه﴾ أي : غير معوجين أصلاً على نوع شرك بشفيع ولا غيره، وعدى بإلى لتضمنه معنى توجهوا والمعنى : وجهوا استقامتكم إليه بطاعته ولا تميلوا عن سبيله ﴿واستغفروه﴾ أي : اطلبوا منه غفران ذنوبكم وهو محوها عيناً وأثراً حتى لا تعاقبوا عليها ولا تعاتبوا بالندم عليها والإقلاع عنها حالاً ومآلاً، ثم هدد على ذلك فقال :﴿وويل﴾ كلمة عذاب أو واد في جهنم ﴿للمشركين﴾ أي : من فرط جهالتهم واستخفافهم بالله تعالى.
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٩٨
الذين لا يؤتون الزكاة﴾
أي : لبخلهم وعدم إشفاقهم على الخلق وذلك من أعظم الرذائل
٦٠٠
﴿وهم بالآخرة﴾ أي : الحياة التي بعد هذه ولا بعد لها ﴿هم كافرون﴾ واحتج من قال إنّ الكفار مخاطبون بفروع الشريعة بهذه الآية فقالوا : إن الله تعالى توعدهم بأمرين أحدهما : كونهم مشركين والثاني : لا يؤتون الزكاة، فوجب أن يكون لكل واحد من هذين تأثير في حصول الوعيد وذلك يدل على أن لعدم إيتاء الزكاة مع الشرك تأثيراً عظيماً في زيادة الوعيد وهو المطلوب، فإن قيل : لِمَ خص تعالى من أوصاف المشركين منع الزكاة مقروناً بالكفر بالآخرة ؟
أجيب : بأن أحب شيء إلى الإنسان ماله وهو شقيق روحه فإذا بذله في سبيل الله فذلك أقوى دليل على ثباته واستقامته وصدق نيته ونصوح طويته ألا ترى قوله تعالى :﴿ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم﴾ (البقرة : ٢٦٥)
أي : يثبتون أنفسهم ويدلون على ثباتها بإنفاق الأموال وما خدع المؤلفة قلوبهم إلا بلمظة من الدنيا فقرت عصبيتهم ولانت شكيمتهم، وأهل الردة بعد رسول الله ﷺ ما تظاهروا إلا بمنع الزكاة فنصبت لهم الحروب وجوهدوا، وفيه بعث للمؤمنين على أداء الزكاة وتخويف شديد في منعها، حيث جعل المنع من أوصاف المشركين وقرن بالكفر بالآخرة، وقال ابن عباس : هم الذين لا يقولون لا إله إلا الله وهي زكاة الأنفس، والمعنى : لا يطهرون أنفسهم من الشرك بالتوحيد، وقال الحسن وقتادة : لا يقرون بالزكاة ولا يرون إيتاءها واجباً وكان يقال : الزكاة قنطرة الإسلام فمن قطعها نجا ومن تخلف عنها هلك.
وقال الضحاك ومقاتل : لا ينفقون في الطاعة ولا يتصدقون، وقال مجاهد : لا يزكون أعمالهم.
ولما ذكر تعالى ما للجاهلين وعيداً وتحذيراً ذكر ما لأضدادهم وعداً وتبشيراً فقال تعالى مجيباً لمن تشوق لذلك مؤكداً لإنكار من ينكره :
﴿إن الذين آمنوا﴾ أي : بما آتاهم الله تعالى من العلم النافع ﴿وعملوا الصالحات﴾ من الزكاة وغيرها من أنواع الطاعات ﴿لهم أجر﴾ أي : عظيم ﴿غير ممنون﴾ أي : غير مقطوع جزاء على سماحهم بالفاني اليسير من أموالهم في الزكاة وغيرها وما أمر الله تعالى من أقوالهم وأفعالهم في الآخرة والدنيا، والممنون المقطوع من مننت الحبل إذا قطعته ومنه قولهم قد منّه السفر أي : قطعه، وقال مقاتل : غير منقوص، ومنه المنون لأنه ينقص من الإنسان وقوته، وأنشدوا لذي الإصبع العدواني :
*إني لعمرك ما بابي بذي غلق ** على الصديق ولا أجري بممنون*
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٩٨
وقيل : غير ممنون به عليهم لأن عطاء الله تعالى لا يمن به إنما يمن المخلوق، وقال السدي : نزلت في المرضى والزمنى إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر كما صح ما كانوا يعملون فيه، روى عبد الله بن عمر أن رسول الله ﷺ قال :"إن العبد إذا كان على طريقة حسنة من العبادة ثم مرض قيل للملك الموكل به : اكتب له مثل عمله إذا كان طليقاً حتى أطلقه أو ألفته إلي".
ولما ذكر سبحانه وتعالى سفههم في كفرهم بالآخرة، شرع في ذكر الأدلة على قدرته عليها
٦٠١
وعلى كل ما يريد كخلق الأكوان وما فيها الشامل لهم ولمعبوداتهم من الجمادات وغيرها الدال على أنه واحد لا شريك له، فقال منكراً عليهم ومقرراً بالوصف لأنهم كانوا عالمين بأصل الخلق :


الصفحة التالية
Icon