الثالث : أنه الذي سلم وسلّم وأسلم وسالم واستسلم، الرابع : أنه هو اللديغ أي : القلق المنزعج من خشية الله، لكن قال الزمخشريّ : أنّ القولين الأخيرين من بدع التفاسير، وقوله تعالى :
﴿وأزلفت الجنة﴾ حال من واو يبعثون، ومعنى أزلفت قربت أي : قربت الجنة ﴿للمتقين﴾ فتكون قريبة من موقف السعداء ينظرون إليها ويفرحون بأنهم المحشورون إليها زيادة إلى شرفهم.
﴿وبرّزت الجحيم﴾ أي : كشفت وظهرت النار الشديدة ﴿للغاوين﴾ أي : الكافرين فيرونها مكشوفة ويحشرون على أنهم المسوقون إليها زيادة في هوانهم.
تنبيه : في اختلاف الفعلين بترجيح لجانب الوعد على الوعيد حيث قال في حق المتقين وأزلفت أي : قربت وفي حق الغاوين وبرّزت أي : أظهرت ولا يلزم من الظهور القرب.
﴿وقيل لهم﴾ تبكيتاً وتنديماً وتوبيخاً، وأبهم القائل ليصلح لكل أحد تحقيراً لهم، ولأنّ المراد نفس القول لا كونه من معين ﴿أينما﴾ أي : أين الذي ﴿كنتم تعبدون﴾ في الدنيا، ثم حقر معبوداتهم بقوله تعالى :
﴿من دون﴾ أي : من أدنى رتبة من رتب ﴿الله﴾ أي : الملك الذي لا كفء له، وكنتم تزعمون أنهم يشفعون لكم ويقونكم شرّ هذا اليوم ﴿هل ينصرونكم﴾ بدفع العذاب عنكم ﴿أو ينتصرون﴾ بدفعه عن أنفسهم.
﴿فكبكبوا﴾ أي : فتسبب عن عجزهم أن ألقوا ﴿فيها﴾ أي : في مهواة الجحيم ﴿هم﴾ أي : الأصنام وما شابهها من الشياطين ونحوهم ﴿والغاوون﴾ أي : الذين ضلوا بهم، والكبكبة : تكرار
٦١
الكب لتكرير معناه كأنّ من ألقى في النار ينكب مرّة بعد أخرى حتى يستقرّ في قعرها، وقال الزجاج : طرح بعضهم فوق بعض، وقال القتيبي : ألقوا على رؤوسهم.
﴿وجنود إبليس﴾ وهم اتباعه ومن أطاعه من الإنس والجنّ، وقيل ذريته ﴿أجمعون﴾ ولما لم يتمكنوا من قول في جواب استفهامهم قبل إلقائهم.
﴿قالوا﴾ أي : العبدة ﴿وهم فيها﴾ أي : الجحيم ﴿يختصمون﴾ أي : مع المعبودات وقولهم :
﴿تالله﴾ أي : الذي له جميع الكمال ﴿إن كنا لفي ضلال مبين﴾ أي : ظاهر جدّاً لمن كان له قلب سليم معمول قولهم وما بينهما، وهو وهم فيها يختصمون جملةً حاليةً معترضةً بين القول ومعموله وقيل : إنّ الأصنام تنطق وتخاصم العبدة، ويؤيده الخطاب في قولهم :
﴿إذ﴾ أي : حين ﴿نسويكم برب العالمين﴾ في استحقاق العبادة.
تنبيه : إذ منصوب إما بمبين أو بمحذوف أي : ضللنا في وقت تسويتنا لكم بالله في العبادة.
﴿وما أضلنا﴾ أي : ذلك الضلال المبين عن الطريق البين ﴿إلا المجرمون﴾ أي : الأولون الذين اقتدينا بهم من رؤسائنا وكبرائنا كما في آية أخرى ﴿ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلاً﴾ (الأحزاب : ٦٧)
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٩
وعن ابن جريح : إبليس وابن آدم الأوّل وهو قابيل وهو أوّل من سنّ القتل وأنواع المعاصي.
﴿فما﴾ أي : فتسبب عن ذلك أنه ما ﴿لنا﴾ اليوم وزادوا في تعميم النفي بزيادة الجار فقالوا ﴿من شافعين﴾ يكونون سبباً لإدخالنا الجنة كالمؤمنين تشفع لهم الملائكة والنبيون.
﴿ولا صديق حميم﴾ أي : قريب يشفع لنا يقول ذلك الكفار حين تشفع الملائكة والنبيون والمؤمنون، والصديق : هو الصادق في ودادك الذي يهمه ما أهمك مع موافقة الدين، وعن جابر قال سمعت رسول الله ﷺ يقول :"إنّ الرجل ليقول في الجنة ما فعل صديقي فلان وصديقه في الجحيم فيقول الله تعالى أخرجوا له صديقه إلى الجنة فيقول من بقي في النار فما لنا من شافعين ولا صديق حميم" قال الحسن : استكثروا من الأصدقاء المؤمنين فإنّ لهم شفاعة يوم القيامة، فإن قيل : لم جمع الشافع ووحد الصديق ؟
أجيب : بأنّ الشفعاء كثيرون في العادة رحمة له وحسبة وإن لم يسبق له بأكثرهم معرفة، وأما الصديق وهو الصادق في ودادك الذي يهمه ما أهمك، قال الزمخشري : فأعز من بيض الأنوق انتهى. قال الجوهريّ : الأنوق على فعول طير وهو الرخمة وفي المثل أعز من بيض الأنوق لأنها محرزة فلا يكاد يظفر بها لأنّ أوكارها في رؤوس الجبال والأماكن الصعبة البعيدة، وعن بعض الحكماء أنه سئل عن الصديق فقال اسم لا معنى له : أي : لا يوجد ولما وقعوا في هذا الهلاك وانتفى عنهم الخلاص تسبب عنه تمنيهم المحال فقالوا.
﴿فلو أن لنّا كرّة﴾ أي : رجعة إلى الدنيا ﴿فنكون من المؤمنين﴾ أي : الذين صار الإيمان لهم وصفاً لازماً فأزلفت لهم الجنة.
تنبيه : انظر ما أحسن ما رتب إبراهيم عليه السلام كلامه مع المشركين حين سألهم أوّلاً عما يعبدون سؤال مقرر لا مستفهم ثم أنحى على آلهتهم فأبطل أمرها بأنها لا تضرّ ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع وعلى تقليدهم آباؤهم الأقدمين فكسره وأخرجه من أن يكون شبهة فضلاً عن أن يكون حجة، ثم صور المسألة في نفسه دونهم حتى تخلص منها إلى ذكر الله عز وجل فعظم شأنه وعدد نعمته من
٦٢