ولما كان الصباح محل رجاء للإفراج فكان شر الإتراح ما كان فيه، قال تعالى ﴿فأصبحتم﴾ أي : بسبب ما أعطيتموه من النعم لتستنقذوا أنفسكم به من الهلاك، كان سبب هلاككم ﴿من الخاسرين﴾ أي : العريقين في الخسارة المحكوم بخسارتهم في جميع ذلك اليوم.
قال المحققون : الظن قسمان أحدهما : حسن، والآخر : فاسد، فالحسن، أن يظن بالله تعالى الرحمة والفضل والإحسان قال ﷺ عن الله تعالى :"أنا عند ظن عبدي بي". وقال ﷺ "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله".
والظن الفاسد أن يظن أن الله تعالى يعزب عن علمه بعض هذه الأحوال. وقال قتادة : الظن نوعان : منجي ومردي، فالمنجي : قوله :﴿إني ظننت أني ملاق حسابيه﴾ (الحاقة : ٢٠)
وقوله تعالى :﴿الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون﴾ (البقرة : ٤٦)
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦١١
والمردي : هو قوله تعالى :﴿وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرادكم﴾.
﴿فإن يصبروا فالنار مثوىً﴾ أي : منزل ﴿لهم﴾ أي : إن أمسكوا عن الاستغاثة لفرج ينتظرونه لم يجدوا ذلك وتكون النار مقاماً لهم ﴿وإن يستعتبوا﴾ أي : يسألوا العتبى وهو، الرجوع لهم إلى ما يحبون جزعاً مما هم فيه ﴿فما هم من المعتبين﴾ أي : المجابين إليها، ونحوه قوله عز وجل :﴿أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص﴾ (إبراهيم : ٢١)
ولما ذكر وعيدهم في الدنيا والآخرة أتبعه سبب كفرهم الذي هو سبب الوعيد فقال تعالى :
﴿وقيضنا﴾ قال مقاتل : هيأنا وقال الزجاج : سببنا ﴿لهم﴾ أي : للكفرة وأصل التقييض : التيسير والتهيئة يقال : قيضته للدواء هيأته له ويسرته، وهذان ثوبان قيضان أي : كل منهما مكافئ للآخر في الثمن وقوله تعالى :﴿قرناء﴾ أي : نظراء من الشياطين حتى أضلوهم، جمع قرين قال تعالى :﴿ومن
٦١٢
يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين﴾
﴿فزينوا لهم﴾ أي : من القبائح ﴿ما بين أيديهم﴾ أي : من أمر الدنيا حتى آثروها على الآخرة ﴿وما خلفهم﴾ أي : من أمر الآخرة فدعوهم إلى التكذيب وإنكار البعث، وقال الزجاج : زينوا لهم ما بين أيديهم من أمر الآخرة أنه لا بعث ولا جنة ولا نار، وما خلفهم من أمر الدنيا بأن الدنيا قديمة ولا صانع إلا الطبائع والأفلاك، قال القشيري : إذا أراد الله بعبده سوءاً قيض له إخوان سوء وقرناء سوء يحملونه على المخالفات ويدعونه إليها، ومن ذلك الشيطان، وشر منه النفس وبئس القرين، تدعو اليوم إلى ما فيه الهلاك وتشهد غداً عليه، وإذا أراد الله بعبده خيراً قيض الله له قرناء خير يعينونه على الطاعة ويحملونه عليها ويدعونه إليها.
وروي عن أنس أن النبي ﷺ قال :"إذا أراد الله بعبد شراً قيض له قبل موته شيطاناً فلا يرى حسناً إلا قبحه عنده ولا قبيحاً إلا حسنه عنده". وعن عائشة : إذا أراد الله بالوالي خيراً قيض له وزير صدق إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه، وإن أراد غير ذلك جعل له وزير سوء إن نسي لم يذكره وإن ذكر لم يعنه، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله ﷺ قال :"ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، والمعصوم من عصمه الله تعالى".
تنبيه : في الآية دلالة على أنه تعالى يريد الكفر من الكافرين لأنه تعالى قيض لهم قرناء سوء فزينوا لهم الباطل، وهذا يدل على أنه تعالى أراد منهم الكفر ولكن لا يرضاه كما قال تعالى :﴿ولا يرضى لعباده الكفر﴾ (الزمر : ٧)
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦١١
وحق﴾
أي : وجب وثبت ﴿عليهم القول﴾ أي : كلمة العذاب، وقرأ أبو عمرو في الوصل بكسر الهاء والميم، وحمزة والكسائي بضم الهاء والميم، والباقون بكسر الهاء وضم الميم وقوله تعالى :﴿في أمم﴾ محله نصب على الحال من الضمير في عليهم أي : حق عليهم القول كائنين في جملة أمم كثيرة، وفي بمعنى مع ﴿قد خلت﴾ أي : لم تتعظ أمة منهم بالأخرى ﴿من قبلهم﴾ أي : في الزمان ﴿من الجن والأنس﴾ قد عملوا مثل أعمالهم، وقوله تعالى :﴿إنهم﴾ أي : جميع المذكورين منهم وممن قبلهم ﴿كانوا خاسرين﴾ تعليل لاستحقاقهم العذاب وقوله تعالى :
﴿وقال الذين كفروا﴾ أصله وقالوا أي : المعرضون، ولكنه قال ذلك تنبيهاً على الوصف الذي أوجب إعراضهم ﴿لا تسمعوا﴾ أي : شيئاً من مطلق السماع ﴿لهذا القرآن﴾ وعينوه بالإشارة احترازاً عن غيره من الكتب القديمة كالتوراة، قال القشيري : لأنه مقلب القلوب وكل من استمع له صبا إليه ﴿والغوا﴾ أي : اهزؤوا ﴿فيه﴾ أي : اجعلوه ظرفاً للغو بأن تكثروا من الخرافات والهذيانات واللغط واللغو والتصدية أي : التصفير والتصفيق وغيرها، وقال ابن عباس : كان بعضهم يعني قريشاً يعلم بعضاً إذا رأيتم محمداً يقرأ فعارضوه بالرجز والشعر، واللغو : هو من باب لغي بالكسر يلغى بالفتح إذا تكلم بما لا فائدة فيه ﴿لعلكم تغلبون﴾ أي : ليكون حالكم حال من
٦١٣


الصفحة التالية
Icon