جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦١٥
ولما ظهر أن الكل عبيده وكان السيد لا يرضى بإشراك عبده عبداً آخر في عبادة سيده قال تعالى :﴿إن كنتم إياه﴾ أي : خاصة بغاية الرسوخ ﴿تعبدون﴾ كما هو صريح قولكم في الدعاء في وقت الشدائد لا سيما في البحر، وفي الآية إشارة إلى الحث على صيانة الآدميين على أن يقع منهم سجود لغيره رفعاً لمقامهم عن أن يكونوا ساجدين لمخلوق بعد أن كانوا مسجوداً لهم، فإنه تعالى أمر الملائكة عليهم السلام الذين هم من أشرف خلقه بالسجود لآدم عليه السلام وهم في ظهره فتكبر إبليس فأبَّد لعنته إلى يوم القيامة.
﴿فإن استكبروا﴾ أي : أوجدوا التكبر عن اتباعك فيما أمرتهم به من التوحيد فلم ينزهوا الله تعالى عن الشريك ﴿فالذين عند ربك﴾ أي : من الملائكة، قال الرازي : ليس المراد بهذه العندية : قرب المكان بل كما يقال عن الملك من الجند كذا وكذا، ويدل عليه قوله تعالى :"أنا عند ظن عبدي بي"، ﴿وأنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي﴾ ﴿يسبحون له بالليل والنهار﴾ أي : دائماً لقوله تعالى :﴿وهم لا يسأمون﴾ أي : لا يملون ولقوله سبحانه وتعالى :﴿يسبحون الليل والنهار لا يفترون﴾ (الأنبياء : ٢٠)، فإن قيل : اشتغالهم بهذا العمل على الدوام يمنعهم من الاشتغال بسائر الأعمال مع أنهم ينزلون إلى الأرض كما قال تعالى ﴿نزل به الروح الأمين على قلبك﴾ (الشعراء : ١٩٣ ـ ١٩٤)
وقال تعالى عن الذين قاتلوا يوم بدر ﴿يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين﴾ (آل عمران : ١٢٥)
أجيب : بأن الذين ذكرهم الله تعالى ههنا بكونهم مواظبين على التسبيح أقوام معينون من الملائكة.
تنبيه : اختلف في مكان السجدة فقيل : هو عند قوله تعالى :﴿إياه تعبدون﴾ وهو قول ابن مسعود والحسن رضي الله عنهما حكاه الرافعي عن أبي حنيفة وأحمد رضي الله تعالى عنهما لأنه ذكر السجدة قبيله، والصحيح عند الشافعي رضي الله تعالى عنه عند قوله تعالى ﴿لا يسأمون﴾ وهو قول ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب وقتادة وحكاه الزمخشري عن أبي حنيفة رضي الله عنه لأن عنده تم الكلام.
٦١٨
ولما ذكر تعالى الدلائل الأربعة الفلكية أتبعها بذكر الدلائل الأرضية فقال تعالى :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦١٥
﴿ومن آياته﴾ الدالة على قدرته ووحدانيته ﴿أنك﴾ أي : أيها الإنسان ﴿ترى الأرض﴾ أي : بعضها بحاسة البصر وبعضها بعين البصيرة قياساً على ما أبصرت ﴿خاشعة﴾ أي : يابسة لا نبات فيها والخشوع التذلل والتقاصر فاستعير لحال الأرض إذا كانت قحطة لا نبات فيها كما وصفها بالهمود في قوله تعالى :﴿وترى الأرض هامدة﴾ (الحج : ٥)
وهو خلاف وصفها بالاهتزاز والربو، كما قال تعالى :﴿فإذا أنزلنا﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿عليها الماء﴾ من الغمام أو غيره ﴿اهتزت﴾ أي : تحركت حركة عظيمة كثيرة سريعة فكان كمن يعالج ذلك بنفسه ﴿وربت﴾ أي : تشققت فارتفع ترابها وخرج منها النبات وسما في الجو مغطياً لوجهها وتشعبت عروقه وغلظت سوقه فصار يمنع سلوكها على ما كانت فيه من السهولة وتزخرفت بذلك النبات كأنها بمنزلة المختال في زيه بعدما كانت قبل ذلك كالذليل الكاسف البال في الأطمار الرثة، وقرأ السوسي : ترى الأرض في الوصل بالإمالة بخلاف منه، والباقون بالفتح، وفي الوقف أمال محضة أبو عمرو وحمزة والكسائي، وورش بين بين، والباقون بالفتح، ثم استدل بذلك على القدرة على البعث فقال تعالى :﴿إن الذي أحياها﴾ أي : بما أخرج من نباتها بعد أن كانت ميتة ﴿لمحيي الموتى﴾ كما فعل بالنبات من غير فرق ﴿إنه على كل شيء قدير﴾ فهو قادر على إحياء الأرض بعد موتها وعلى إحياء هذه الأجساد بعد موتها لأن الممكنات بالنسبة إلى القدرة متساوية فالقادر قدرة تامة على شيء منها قادر على غيره.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦١٩
ثم إنه تعالى هدد من يجادل في آياته بإلقاء الشبهات فيها بقوله تعالى :
﴿إن الذين يلحدون في آياتنا﴾ أي : القرآن على ما لها من العظمة بالطعن والتحريف والتأويل الباطل والإلغاز فيها، وقرأ حمزة بفتح الياء والحاء من لحد، والباقون بضم الياء وكسر الحاء من ألحد يقال : لحد الحافر وألحد إذا مال عن الاستقامة بحفره في شق، فالملحد هو المنحرف، ثم اختص في العرف بالمنحرف عن الحق إلى الباطل، قال مجاهد : يلحدون في آياتنا بالمكاء والتصدية واللغو واللغط، وقال السدي : يعاندون ويشاقون ﴿لا يخفون علينا﴾ أي : في وقت من الأوقات ونحن قادرون على أخذهم متى شئنا أخذنا ولا يعجل إلا من يخشى الفوات، قال مقاتل : نزلت في أبي جهل وقوله تعالى ﴿أفمن يلقى في النار﴾ أي : على وجهه بأيسر أمر ﴿خير أم من يأتي آمناً يوم القيامة﴾
٦١٩