الآية كأنه تعالى يقول هذا الكلام أرسلته إليكم بلغتكم لا بلغة أجنبية عنكم، فلا يمكنكم أن تقولوا قلوبنا في أكنة منه بسبب جهلنا هذه اللغة فكل من أعطاه الله تعالى طبعاً مائلاً إلى الحق وقلباً داعياً إلى الصدق فإن هذا القرآن يكون في حقه هدى وشفاء، وأما من غرق في بحر الخذلان وشغف بمتابعة الشيطان فهو في ظلمة وعمى كما قال تعالى :﴿والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر﴾ أي : ثقل فلا يسمعون سماعاً ينفعهم ﴿وهو عليهم عمى﴾ فلا يبصرون الداعي حق الإبصار، ثم قال الرازي : وكل من أنصف علم أن التفسير على هذا الوجه الذي ذكرناه أولى مما ذكروه، أي : أنه متعلق بما قبله لأن السورة تصير بذلك من أولها إلى آخرها كلاماً واحداً منتظماً مسوقاً لغرض واحد انتهى.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦١٩
ولما بين بهذا بعدهم عن عليائه وطردهم عن فنائه قال تعالى :
﴿أولئك﴾ أي : البعداء البغضاء مثالهم مثال من ﴿ينادون﴾ أي : يناديهم من يريد نداءهم غير الله تعالى ﴿من مكان بعيد﴾ أي : هم كالمنادي من مكان بعيد لا يسمع ولا يفهم ما ينادى به.
﴿ولقد آتينا﴾ أي : على ما لنا من العظمة ﴿موسى الكتاب﴾ أي : التوراة ﴿فاختلف﴾ أي : وقع الاختلاف ﴿فيه﴾ وجه تعلقه بما قبله كأنه قيل : إنا لما آتينا موسى الكتاب فقبله بعضهم وهم أصحاب الهدى ورده بعضهم، فكذلك آتيناك الكتاب فقبله بعضهم وهم أصحابك ورده آخرون وهم الذين يقولون قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه ﴿ولولا كلمة﴾ أي : إرادة ﴿سبقت﴾ في الأزل ﴿من ربك﴾ أي : المحسن إليك بتأخير الحساب والجزاء للخلائق إلى يوم القيامة ﴿لقضي بينهم﴾ أي : في الدنيا فيما اختلفوا فيه من إنصاف المظلوم من ظالمه قال تعالى :﴿بل الساعة موعدهم﴾ (القمر : ٤٦)
﴿ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى﴾ (فاطر : ٤٥)
﴿وإنهم لفي شك﴾ أي : المكذبين محيط بهم ﴿منه﴾ أي : القضاء يوم الفصل ﴿مريب﴾ أي : موقع في الريب وهو التهمة والاضطراب بحيث لا يقدرون على التخلص من دائرته أصلاً. ثم قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم
﴿من عمل صالحاً﴾ أي : كائناً من كان ﴿فلنفسه﴾ أي : فنفع عمله لها لا لأحد يتعداها والنفس فقيرة إلى التزكية بالأعمال الصالحة لأنها محل النقائص فلذا عبر بها
٦٢١
﴿ومن أساء﴾ في عمله ﴿فعليها﴾ أي : على نفسه خاصة ليس عليك منه شيء فخفف عن نفسك إعراضهم فإنهم إن آمنوا فنفع إيمانهم يعود إليهم، وإن كفروا فضرر كفرهم يعود إليهم، والله سبحانه وتعالى يوصل إلى كل أحد ما يليق به من الجزاء ﴿وما ربك﴾ أي : المحسن إليك بإرسالك لتتميم مكارم الأخلاق ﴿بظلام﴾ أي : بذي ظلم ﴿للعبيد﴾ أي : هذا الجنس فلا يتصور أن يقع ظلم لأحد منهم أصلاً لأن له الغنى المطلق والحكمة البالغة.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦١٩
﴿إليه﴾ أي : المحسن إليك لا إلى غيره ﴿يرد علم الساعة﴾ أي : لا سبيل إلى معرفة وقت ذلك اليوم ولا يعلمه إلا الله، وكذا العلم بحدوث الحوادث المستقبلة في أوقاتها المعينة ليس إلا عند الله، ثم ذكر من أمثلة هذا الباب مثالين :
أحدهما قوله تعالى :﴿وما تخرج من ثمرات﴾ أي : في وقت من الأوقات، وقرأ نافع وابن عامر وحفص بألف بعد الراء جمعاً، والباقون بغير ألف إفراداً وقوله تعالى :﴿من أكمامها﴾ جمع كم وكمامة، قال البقاعي تبعاً للزمخشري : بالكسر فيهما وهو وعاء الطلع وكل ما غطى على وجه الإحاطة شيئاً من شأنه أن يخرج فهو كم، وقال الراغب : الكم ما يغطي البدن من القميص وما يغطي الثمرة وجمعه أكمام وهذا يدل على أنه مضموم الكاف أو جعله مشتركاً بين كم القميص وكم الثمرة، ولا خلاف في كم القمص أنه بالضم فيجوز أن يكون في وعاء الثمرة لغتان دون كم القميص جمعاً بين القولين.
والمثال الثاني قوله تعالى :﴿وما تحمل من أنثى﴾ حملاً ناقصاً أو تاماً، وأكد النفي بإعادة النافي ليشهد كل على حياله ﴿ولا تضع﴾ حملاً حياً أو ميتاً ﴿إلا﴾ حال كونه متلبساً ﴿بعمله﴾ ولا علم لأحد غيره بذلك، ومن ادعى علماً به فليخبر بأن ثمرة الحديقة الفلانية والبستان الفلاني والبلد الفلاني تخرج في الوقت الفلاني أو لا تخرج العام شيئاً، والمرأة الفلانية تحمل في الوقت الفلاني وتضع في وقت كذا أو لا تحمل العام شيئاً، ومن المعلوم أنه لا يحيط بهذا علماً إلا الله تعالى.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٢٢
فإن قيل : قد يقول الرجل الصالح من أصحاب الكشوف قولاً فيصيب فيه وكذلك الكهان والمنجمون ؟
أجيب : بأن أصحاب الكشوف إذا قالوا قولاً فهو من إلهام الله تعالى واطلاعه إياهم عليه فكان من علمه الذي يرد إليه، وأما الكهان والمنجمون فلا يمكنهم القطع والجزم في شيء مما يقولونه البتة وإنما غايتهم ادعاء ظن ضعيف قلما يصيب، وعلم الله تعالى هو العلم اليقين المقطوع به الذي لا يشاركه فيه أحد جل ربنا وعلا ﴿ويوم يناديهم﴾ أي : المشركين بعد بعثهم من القبور
٦٢٢