ثم بين المشروع الموصى به والموحى إلى محمد ﷺ بقوله تعالى :﴿أن أقيموا﴾ أي : أيها المشروع لهم من هذه الأمة الخاتمة ومن الأمم الماضية ﴿الدين﴾ وهو الإيمان بما يجب تصديقه والطاعة في أحكام الله تعالى، ومحله النصب على البدل من مفعول شرع أو الرفع على الاستئناف كأنه جواب، وما ذلك المشروع أو الجر على البدل من هاء به.
ولما عظمه بالأمر بالاجتماع أتبعه بالتعظيم بالنهي عن الافتراق بقوله تعالى :﴿ولا تتفرقوا فيه﴾ أي : ولا تختلفوا في هذا الأصل إما فروع الشرائع المختلفة فقال تعالى :﴿لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً﴾ (المائدة : ٤٨)
وقال قتادة : الموصى به تحليل الحلال وتحريم الحرام، وقال الحكم : تحريم الأمهات والبنات والأخوات، وقال مجاهد : لم يبعث الله تعالى نبياً إلا وصاه بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإفراد لله تعالى بالطاعة فذلك دينه الذي شرعه، وقيل : هو التوحيد والبراءة من الشرك، وجرى على هذا الجلال المحلي والكل يرجع إليه ﴿كبر﴾ أي : عظم وشق ﴿على المشركين﴾ حتى ضاقت به صدورهم ﴿ما تدعوهم إليه﴾ أيها النبي الفاتح الخاتم من الاجتماع أبداً على ما اجتمعوا عليه وقت الاضطرار من وحدانية الواحد القهار، فلأجل كبره عليهم هم يسعون في تفرقكم فإن تفرقتم كنتم تابعتم العدو الحسود وخالفتم الولي الودود.
ثم نبه تعالى على أن الأمور كلها بيده بقوله تعالى :﴿الله﴾ الذي له مجامع العظمة ونفوذ الأمر ﴿يجتبي﴾ أي : يختار ﴿إليه﴾ أي : إلى هذا الدين الذي تدعوهم إليه ﴿من يشاء﴾ اجتباءه ﴿ويهدي إليه﴾ بالتوفيق للطاعة ﴿من ينيب﴾ أي : من يقبل إلى طاعته.
ولما بين تعالى أمر كل الأنبياء عليهم السلام والأمم بالأخذ بالدين المتفق عليه كأن لقائل أن يقول : فلماذا نجدهم متفرقين ؟
أجاب بقوله تعالى :
﴿وما تفرقوا﴾ أي : المشركون من قبلكم من أهل الكتاب وغيرهم ﴿إلا من بعد ما جاءهم العلم﴾ أي : بالتوحيد أو بمبعث الرسول ﷺ أو بأن التفرق ضلال متوعد عليه ﴿بغياً بينهم﴾ أي : فعلوا ذلك للبغي وطلب الرياسة فحملتهم الحمية النفسانية على أن ذهبت كل طائفة إلى مذهب ودعوا الناس إليه وقبحوا ما سواه طلباً للذكر والرياسة، فصار ذلك سبباً لوقوع الاختلاف، ثم أخبر تعالى أنهم استحقوا العذاب بسبب هذا الفعل إلا أنه تعالى أخر عنهم العذاب لأن لكل عذاب عنده أجلاً مسمى، أي : وقتاً معلوماً وهذا معنى قوله تعالى :﴿ولولا كلمة﴾ أي : لا تبديل لها ﴿سبقت﴾ أي : في الأزل ﴿من ربك﴾ أي : المحسن إليك بجعلك خير الخلائق وإمامهم بتأخيرهم ﴿إلى أجل مسمى﴾ ضربه لآجالهم ثم يجمعهم في الآخرة ﴿لقضي﴾ على أيسر وجه وأسهله ﴿بينهم﴾ حين الافتراق بإهلاك الظالم وإنجاء المحق، قال ابن عباس : والذين أريدوا بهذه الصفة هم اليهود والنصارى لقوله تعالى في آل عمران :﴿وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم﴾ (آل عمران : ١٩)
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٣٠
وقوله تعالى في سورة لم يكن :﴿وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة﴾ (البينة : ٤)
وكذلك في قوله تعالى :﴿وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم﴾ (الشورى : ١٤)
أي : المتفرقين هم اليهود
٦٣٢
والنصارى الذين كانوا في عهد رسول الله ﷺ وقيل : هم هذه الأمة الذين أورثوا القرآن. ولما نسخ كتابهم ما تقدمه كان غيرهم كأنه مات فورثوه كما قال تعالى :﴿ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا﴾ (فاطر : ٣٢)
فكان حالهم في تمكنهم من التصرف في الكتاب بالحفظ والفهم وعدم المنازعة في ادعائه حال الوارث والموروث منه ﴿لفي شك منه﴾ أي : من كتاب لا يعلمونه كما هو لا يؤمنون به حق الإيمان، أو من القرآن فيقولون إنه سحر وشعر وكهانة ونحو ذلك، وقيل : في شك من محمد ﷺ وجرى على ذلك الجلال المحلي ﴿مريب﴾ أي : موقع في التهمة.