وقال ابن عباس : شرعوا لهم ديناً غير دين الإسلام ﴿ولولا كلمة الفصل﴾ أي : القضاء السابق بتأخير الجزاء أو لولا الوعد بأن الفصل يكون بينهم يوم القيامة ﴿لقضي بينهم﴾ أي : بين الذين امتثلوا أمره والتزموا شرعه وبين الذين اتبعوا ما شرعوه لمن سموهم شركاء في أقرب وقت، ولكنه قد سبق القضاء في الأزل بمقادير الأشياء وتحديدها على وجوه الحكمة فهي تجري على ما حد لها لا يتقدم شيء منها ولا يتاخر ولا يتبدل ولا يتغير وستنكشف لهم الأمور وتظهر مخبآت المقدور فلا يقع الفصل إلا في الآخرة كما سبق القضاء ﴿وإن الظالمين﴾ بشرع ما لم يأذن به الله من الشرك وغيره ﴿لهم عذاب أليم﴾ أي : مؤلم بليغ إيلامه، ثم إنه تعالى ذكر أحوال أهل العقاب وأحوال أهل الثواب مبتدئاً بالأول منهما بقوله تعالى :
﴿ترى﴾ أي : في ذلك اليوم ﴿الظالمين﴾ أي : الواضعين الأشياء في غير مواضعها ﴿مشفقين﴾ أي : خائفين أشد الخوف كما هو الحال من يحاسبه من هو أعلى منه وهو مقصر ﴿مما كسبوا﴾ أي : عملوا معتقدين أنه غاية ما ينفعهم ﴿وهو﴾ أي : جزاؤه ووباله الذي من جنسه حتى كأنه هو ﴿واقع بهم﴾ لا محالة سواء أشفقوا أم لم يشفقوا، ثم ذكر الثاني بقوله تعالى :﴿والذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾ وهي التي أذن الله تعالى فيها غير خائفين مما كسبوا لأنهم مأذون لهم في فعله وهو مغفور لهم ما فرطوا فيه ﴿في روضات الجنات﴾ أي : في الدنيا بما يلذذهم به الله تعالى من لذائذ الأقوال والأفعال والمعارف والأحوال، وفي الآخرة حقيقة بلا زوال، وروضة الجنة أطيب بقعة فيها، وفيه تنبيه على أن عصاة المؤمنين من أهل الجنة لأنه خص الذين آمنوا وعملوا الصالحات بأنهم في روضات الجنات وهي : البقاع الشريفة من الجنة فالبقاع التي دون تلك الروضات لا بد وأن تكون مخصوصة بمن كان دون الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقوله تعالى :﴿لهم ما يشاؤون عند ربهم﴾ يدل على أن تلك الأشياء حاضرة عنده مهيأة والعندية مجاز.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٣٣
تنبيه : عند ربهم يجوز أن يكون ظرفاً ليشاؤون قاله الحوفي، أو للاستقررار العامل في لهم قاله : الزمخشري : وقوله تعالى :﴿ذلك﴾ أي : الخير العظيم الرتبة الجليل القدر ﴿هو الفضل الكبير﴾ أي : الذي يصغر ما لغيرهم في الدنيا يدل على أن الجزاء المرتب على العمل إنما حصل
٦٣٧
بطريق الفضل من الله تعالى لا بطريق الوجوب والاستحقاق وقوله تعالى :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٣٣
﴿ذلك﴾ أي : الجزاء العظيم من الجنة ونعيمها مبتدأ خبره ﴿الذي يبشر الله﴾ أي : الملك الأعظم والعائد وهو به محذوف تفخيماً للمبشر به لأن السياق لتعظيمه بالإشارة ويجعلها بأداة البعد وبالوصف بالذي وذكر الاسم الأعظم والتعبير بلفظ العباد في قوله تعالى ﴿عباده﴾ مع الإضافة إلى ضميره سبحانه.
ولما أشعر بصلاحهم بالإضافة نص عليه بقوله تعالى :﴿الذين آمنوا﴾ أي : صدقوا بالغيب ﴿وعملوا﴾ تحقيقاً لإيمانهم ﴿الصالحات﴾ قرأ نافع وابن عامر وعاصم بضم الياء وفتح الباء الموحدة وكسر الشين مشددة، والباقون بفتح الياء وسكون الباء الموحدة وضم الشين مخففة من بشره.
ولما كان كأنه قيل : فما نطلب في هذه البشارة لأن الغالب أن المبشر وإن لم يسأل يعطى بشارته، كما وقع لكعب لما أذن الله تعالى بتوبته ركض راكض على فرس وسعى ساع على رجليه فأوفى على جبل سلع ونادى : يا كعب بن مالك أبشر فقد تاب الله عليك فكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءه الذي سمع صوته خلع عليه ثوبيه وهو لا يملك يومئذ غيرهما واستعار له ثوبين قال الله تعالى لنبيه ﷺ ﴿قل﴾ أي : لمن توهم فيك ما جرت به عادة المبشرين ﴿لا أسألكم﴾ أي : الآن ولا في مستقبل الزمان ﴿عليه﴾ أي : البلاغ بشارة أو نذارة ﴿أجراً﴾ أي : وإن قل ﴿إلا﴾ أي : لكن أسألكم ﴿المودة﴾ أي : المحبة العظيمة الواسعة ﴿في القربى﴾ أي : مظروفة فيها بحيث تكون القربى موضعاً للمودة وظرفاً لها لا يخرج شيء من محبتكم عنها.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٣٨
تنبيه : في الآية ثلاثة أقوال ؛ أولها : قال الشعبي : أكثر الناس علينا في هذه الآية فكتبنا إلى ابن عباس نسأله عن ذلك فكتب ابن عباس : أن رسول الله ﷺ كان وسط النسب من قريش ليس بطن من بطونهم إلا وقد ولده، وكان له فيهم قرابة فقال الله عز وجل ﴿قل لا أسألكم عليه أجراً﴾ على ما أدعوكم إليه إلا أن تودوا القربى، أي : تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة والمعنى : أنكم قربى وأحق من أجابني وأطاعني فإذ قد أبيتم ذلك فاحفظوا حق القربى وصلوا رحمي ولا تؤذوني، وإلى هذا ذهب مجاهد وقتادة وغيرهما.