﴿قالوا﴾ أي : قومه منكرين عليه ومنكرين لاتباعه استناداً إلى الكبر الذي ينشأ عنه بطر الحق وغمص الناس أي : احتقارهم ﴿أنؤمن لك﴾ أي : لأجل قولك هذا وما أوتيته من أوصافك ﴿و﴾ الحال أنه قد ﴿اتبعك الأرذلون﴾ أي : فيكون إيماننا بك سبباً لاستوائنا معهم، والرذالة : الخسة والذلة، وإنما استرذلوهم لاتضاع نسبهم وقلة نصيبهم من الدنيا، قيل : كانوا من أهل الصناعات الخسيسة كالحياكة والحجامة والصناعة لا تزري بالديانة وهكذا كانت قريش تقول في أصحاب رسول الله ﷺ وما زالت أتباع الأنبياء كذلك حتى كادت من سماتهم وأماراتهم، ألا ترى إلى هرقل حيث سأل أبا سفيان عن أتباع رسول الله ﷺ فلما قال ضعفاء الناس وأراذلهم قال : مازالت أتباع الأنبياء كذلك، وعن ابن عباس هم الفاتحة، وعن عكرمة الحاكة والإساكفة، وعن مقاتل السفلة ولما كانت هذه الشبهة في غاية الركاكة لأنّ نوحاً بعث إلى جميع قومه فلا يختلف الحال بسبب الفقر والغنى وشرف المكاسب وخستها أجابهم بقوله :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٩
﴿قال وما﴾ أي : أي شيء ﴿علمي بما كانوا يعملون﴾ قبل أن يتبعوني أي : مالي وللبحث عن سرائرهم، وإنما قال هذا لأنهم قد طعنوا مع استرذالهم في إيمانهم وأنهم لم يؤمنوا عن نظر وبصيرة وإنما آمنوا هوى وبديهة كما حكى الله عنهم في قوله :﴿الذين هم أراذلنا بادي الرأي﴾ (هود : ٢٧)
ثم أكد أنه لا يبحث عن بواطنهم بقوله :
﴿إن﴾ أي : ما ﴿حسابهم﴾ أي : في الماضي والآتي ﴿إلا على ربي﴾ أي : المحسن إليّ فهو محاسبهم ومجازيهم، وأمّا أنا فلست بمحاسب ولا مجاز ﴿لو تشعرون﴾ أي : لو كان لكم نوع شعور لعلمتم ذلك فلم تقولوا ما قلتم ما هو دائر على أمور الدنيا فقط ولا نظر له إلى يوم الحساب، فإنّ الغنى غنى الدين والنسب نسب التقوى، ولما أوهم قولهم : هذا استدعاء طرد هؤلاء الذين آمنوا معه وتوقيف إيمانهم عليه حيث جعلوا أتباعهم المانع عنه أجابهم بقوله عليه السلام.
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٤
وما﴾ أي : ولست ﴿أنا بطارد المؤمنين﴾ أي : الذين صار الإيمان لهم وصفاً راسخاً فلم يرتدوا عنه للطمع في إيمانكم ولا لغيره من أتباع شهواتكم، ثم علل ذلك بقوله :
﴿إن أنا إلا نذير﴾ أي : محذر لا وكيل فاتش على البواطن ولامتنعت عن الاتباع ﴿مبين﴾ أوضح ما أرسلت به فلا أدع فيه لبساً، وقرأ قالون بمدّ أنا في الوصل بخلاف عنه، والباقون بالقصر، ولما أجابهم بهذا الجواب وقد أيسوا مما راموه لم يكن منهم إلا التهديد بأن.
﴿قالوا لئن لم تنته﴾ ثم سموه باسمه جفاء وقلة أدب بقولهم :﴿يا نوح﴾ عما تقوله ﴿لتكونن من المرجومين﴾ قال مقاتل والكلبي : من المقتولين بالحجارة، وقال الضحاك : من المشتومين فعند ذلك حصل اليأس لنوح عليه السلام من فلاحهم فلذلك.
﴿قال﴾ شاكياً إلى الله ما هو أعلم به منه توطئة للدّعاء عليهم ومعرضاً عن تهديدهم له صبراً
٦٤
واحتساباً لأنه من لازم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ﴿رب﴾ أي : أيها المحسن إليّ ﴿إنّ قومي كذبون﴾ أي : فيما جئت به فليس الغرض من هذا إخبار الله بالتكذيب لعلمه بأنه عالم الغيب والشهادة ولكنه أراد لا أدعوك عليهم لما آذوني وإنما أدعوك لأجلك ولأجل دينك ولأنهم كذبوك في وحيك ورسالتك.
﴿فافتح﴾ أي : احكم ﴿بيني وبينهم فتحاً﴾ أي : حكماً يكون لي فيه فرج وبه من المضيق مخرج فأهلك المبطلين ﴿ونجني ومن معي﴾ أي : في الدين ﴿من المؤمنين﴾ مما تعذب به الكافرين، ثم لما كان في إهلاكهم وإنجائه من بديع الصنع ما يجل عن الوصف أظهره في مظهر العظمة بقوله تعالى :
﴿فأنجيناه ومن معه﴾ أي : الذين اتبعوه في الدين على ضعفهم وقلتهم ﴿في الفلك﴾ أي : السفينة وجمعه فُلك قال الله تعالى :﴿وترى الفلك فيه مواخر﴾ (فاطر : ١٢)
قالوا حد بوزن قفل والجمع بوزن أسد، وقال تعالى ﴿المشحون﴾ أي : الموقور المملوء من الناس والطير والحيوان لأنّ سلامة المملوء جداً أغرب، ولما كان إغراقهم كلهم من الغرائب عظمه بأداة البعد فقال تعالى :
﴿ثم أغرقنا بعد﴾ أي : بعد إنجاء نوح ومن معه ﴿الباقين﴾ أي : من بقي على الأرض ولم يركب معه في السفينة على قوّتهم وكثرتهم.
﴿إن في ذلك﴾ أي : الأمر العظيم من الدعاء والإمهال ثم الإنجاء والإهلاك ﴿لأية﴾ أي : عظة لمن شاهد ذلك أو سمع به ﴿وما﴾ أي : والحال أنه ما ﴿كان أكثرهم﴾ أي : العالمين بذلك ﴿مؤمنين﴾ وقد كان ينبغي لهم إذ فاتهم الإيمان بمحض الدليل أن يبادروا بالإيمان حين رأوا أوائل العذاب.
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٤
وإن ربك﴾ المحسن إليك بإرسالك وتكثير أتباعك وتعظيم أشياعك ﴿لهو العزيز﴾ أي : القادر بعزته على كل من قسرهم على الطاعة وإهلاكهم في أوّل أوقات المعصية ﴿الرحيم﴾ أي : الذي يخص من شاء من عباده بخالص وداده.