وروى جابر : أن أعرابياً دخل مسجد النبي ﷺ فقال :"اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك وكبر" فلما فرغ من صلاته قال له علي رضي الله تعالى عنه : يا هذا إن سرعة الاستغفار باللسان توبة الكذابين فقال يا أمير المؤمنين ما التوبة ؟
قال : اسم يقع على ستة أشياء على الماضي من الذنوب الندامة ولتضييع الفرائض الإعادة ورد المظالم وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية وإذابتها في الطاعة كما ربيتها في المعصية والبكاء بدل كل ضحك ضحكته. وقال سهل بن عبد الله : التوبة الانتقال من الأحوال المذمومة إلى الأحوال المحمودة. وقال بعضهم : هي الندم على الماضي والترك في الحال والعزم على أن لا يعود إليه في المستقبل. وعن أبي هريرة قال :"سمعت رسول الله ﷺ يقول : والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة". وروي أنه ﷺ قال :"يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة". وعن أبي موسى الأشعري : أن رسول الله ﷺ قال :"إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها". وروى أنه ﷺ قال :"إن الله جعل في الغرب باباً عرضه مسيرة سبعين عاماً للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها". وروى :"أن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر".
ولما كان القبول قد يكون في المستقبل مع الأخذ بما مضى قال الله تعالى تفضلاً منه ورحمة :﴿ويعفو عن السيئات﴾ أي : التي كانت التوبة منها صغيرة كانت أو كبيرة وعن غيرها فلا يؤاخذ بها إن شاء لأن التوبة تجب ما قبلها كما أن الإسلام الذي هو توبة خاصة يجب ما يكون قبله وروى أنس عن النبي ﷺ أنه قال :"لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان هو وراحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فآيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح :"اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح" ﴿ويعلم﴾ أي : والحال أنه يعلم كل وقت ﴿ما تفعلون﴾ فيجازي ويتجاوز عن إتقان وحكمة، وقرأ حمزة والكسائي وحفص بتاء الخطاب إقبالاً على الناس عامة وهذا خطاب للمشركين، وقرأ الباقون بالغيبة نظراً إلى قوله تعالى عن عباده وقال تعالى بعد ﴿ويزيدهم من فضله﴾.
ولما رغب بالعفو زاد بالإكرام فقال تعالى :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٣٨
ويستجيب﴾ أي : يوجد بغاية العناية والطلب إجابة ﴿الذين آمنوا﴾ أي : دعاء الذين أقروا بالإيمان في كل ما دعوا به أو شفعوا عنده فيه لأنه لولا
٦٤١
إرادته لهم الإكرام بالإيمان ما آمنوا، وعدي الفعل بنفسه ولم يقل :﴿ويستجيب للذين آمنوا﴾ تنبيهاً على زيادة بره لهم ووصلهم به ﴿وعملوا﴾ تصديقاً لدعواهم الإيمان ﴿الصالحات﴾ فيثيبهم النعيم المقيم ﴿ويزيدهم﴾ أي : مع ما دعوا به لما لم يدعوا به ولم يخطر على قلوبهم ﴿من فضله﴾ أي : تفضلاً منه عليهم ويجوز أن يكون الموصول فاعلاً أي : يجيبون ربهم إذا دعاهم كقوله تعالى :﴿استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم﴾ (الأنفال : ٢٤)
واستجاب كأجاب ومنه :
*وداع دعا يا من يجيب إلى الندا ** فلم يستجبه عند ذلك مجيب*
وقال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما : معناه ويثيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله سوى ثواب أعمالهم تفضلاً منه، وروى أبو صالح عنه :"يشفعهم ويزيدهم من فضله" قال في إخوان : إخوانهم ثم أتبع المؤمنين بذكر ضدهم فقال تعالى ﴿والكافرون﴾ أي : العريقون في هذا الوصف القاطع الذين منعتهم عراقتهم من التوبة والإيمان ﴿لهم عذاب شديد﴾ بدل ما للمؤمنين من الثواب والتفضيل ولا يجيب دعاءهم وما دعاء الكافرين إلا في ضلال، فالآية من الاحتباك ذكر الاستجابة أولاً دليلاً على ضدها ثانياً والعذاب ثانياً دليلاً على ضده أولاً.
ولما قال تعالى أنه يجيب دعاء المؤمنين ورد سؤال وهو أن المؤمن قد يكون في شدة وبلية وفقر ثم يدعو فلا يظهر أثر الإجابة فكيف الجمع بينه وبين قوله تعالى ﴿ويستجيب الذين آمنوا﴾ فأجاب تعالى عنه بقوله تعالى :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٣٨