والذين يجتنبون} أي : يكلفون أنفسهم أن يجانبوا ﴿كبائر الإثم﴾ أي : جنس الفعال الكبائر التي لا توجد إلا في ضمن أفرادها ويحصل بها دنس النفس فيوجب عقابها مع الجسم وعطف على كبائر قوله تعالى :﴿والفواحش﴾ وهي ما أنكره الشرع والعقل والطبع، والكبائر كل ذنب تعظم عقوبته كالقتل والزنا والسرقة والفواحش ما عظم قبحه من الأقوال والأفعال، وقال مقاتل : ما يوجب الحد وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة النساء، وقرأ حمزة والكسائي : بكسر الباء الموحدة قبل الياء الساكنة وهي للجنس فهي بمعنى قراءة الجمع، كما قرأ الباقون بفتح الموحدة وألف بعدها وبعد الألف همزة مكسورة والأولى أبلغ لشمولها المفردة، الصفة الثالثة : قوله تبارك وتعالى :﴿وإذا ما غضبوا﴾ أي : غضباً هو على حقيقته من أمر مغضب في العادة وبين بضمير الفصل أن بواطنهم في غفرهم كظواهرهم فقال تعالى :﴿هم يغفرون﴾ أي : هم الأخصاء والأحقاء بأنهم كلما تجدد لهم غضب جددوا غفراً أي : محواً للذنوب عيناً وأثراً مع القدرة على الانتقام فسجاياهم تقتضي الصفح دون الانتقام ما لم يكن من الظالم بغي لأنه لا يؤاخذ على مجرد الغضب إلا متكبر والتكبر لا يصلح لغير الإله، وفي الصحيح :"أنه ﷺ ما انتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمات الله تعالى". وروى ابن حاتم عن إبراهيم النخعي قال :"كان المؤمنون يكرهون أن يستذلوا وكانوا إذا قدروا غفروا"، الصفة الرابعة : قوله تعالى :
﴿والذين استجابوا﴾ أي : أوجدوا الإجابة لما لهم من العلم الهادي إلى سبيل الرشاد ﴿لربهم﴾ أي : الداعي لهم إلى إجابة إحسانه إليهم، قال الرازي : المراد من هذا تمام الانقياد، فإن قيل : أليس أنه لما جعل الإيمان فيه شرطاً قد دخل في الإيمان إجابة الله
٦٤٧
تعالى ؟
أجيب : بأنه يحمل هذا على الرضا بقضاء الله تعالى من صميم القلب وأن لا يكون في قلبه منازعة، الصفة الخامسة : قوله سبحانه وتعالى :﴿وأقاموا﴾ أي : أداموا ﴿الصلاة﴾ الواجبة ﴿وأمرهم﴾ أي : كل ما ينوبهم مما يحوجهم إلى تدبير ﴿شورى بينهم﴾ أي : يتشاورون فيه مشاورة عظيمة مبالغين بما لهم من قوة الباطن ولا يعجلون في أمورهم والشورى مصدر كالفتيا بمعنى التشاور، الصفة السادسة، قوله تعالى :﴿ومما رزقناهم﴾ أي : أعطيناهم بعظمتنا من غير حول منهم ولا قوة ﴿ينفقون﴾ أي : يديمون الإنفاق في سبيل الله تعالى كرماً منهم، وإن قل ما بأيديهم اعتماداً على فضل الله تعالى لا يقبضون أيديهم كالمنافقين.
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٤٥
والذين إذا أصابهم البغي﴾ أي : وقع بهم وأثر فيهم وهو التمادي على الرمي بالشر ﴿هم ينتصرون﴾ أي : ينتقمون ممن ظلمهم بمثل ظلمه، كما قال تعالى :
﴿وجزاء سيئة سيئة مثلها﴾ سميت الثانية سيئة لمشابهتها للأولى في الصورة قال مقاتل : يعني القصاص وهي الجراحات والدماء، وقال مجاهد والسدي : هو جواب القبيح إذا قال : أخزاك الله يقول : أخزاك الله وإذا شتمك فاشتمه بمثلها من غير أن تعتدي، قال سفيان بن عيينة : سألت سفيان الثوري عن ذلك فقال : إن شتمك رجل فتشتمه أو يفعل كذا فتفعل به فلم أجد عنده شيئاً، فسأل هشام بن حجر عن ذلك فقال : الجارح إذا جرح يقتص منه وليس هو أن يشتمك وتشتمه وقد تكفلت هذه الجمل بأمهات الفضائل الثلاث، العلم والعفة والشجاعة على أحسن الوجوه، فالمدح بالاستجابة والصلاة دعاء إلى العلم وبالنفقة إلى العفة وبالانتصار إلى الشجاعة حتى لا يظن أن إذعانهم لما مضى مجرد ذل، والقصر على المماثلة دعاء إلى فضيلة التقسيط بين الكل وهي العدل، وهذه الأخيرة كافلة بالفضائل الثلاث فإن من علم المماثلة كان عالماً، ومن قصد الوقوف عندها كان عفيفاً ومن قسر نفسه على ذلك كان شجاعاً وقد ظهر من المدح بالانتصار بعد المدح بالغفران أن الأول : للعاجز، والثاني : للمتغلب المتكبر بدليل البغي، فإن قيل : هذه الآية مشكلة لوجهين ؛ الأول : أنه لما ذكر قبله ﴿وإذا ما غضبوا هم يغفرون﴾، كيف يليق أن يذكر معه ما يجري مجرى الضد له وهو ﴿الذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون﴾، الثاني : أن جميع الآيات دالة على أن العفو أحسن، قال تعالى :﴿وأن تعفوا أقرب للتقوى﴾ (البقرة : ٢٣٧)
وقال تعالى :﴿وإذا مروا باللغو مروا كراماً﴾ (الفرقان : ٧٢)
وقال تعالى :﴿خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين﴾ (الأعراف : ١٩٩)