أجيب : بأن العفو على قسمين ؛ أحدهما : أن يصير العفو سبباً لتسكين الفتنة ورجوع الجاني عن جنايته، والثاني : أن يصير العفو سبباً لمزيد جراءة الجاني وقوة غيظه وغضبه، فآيات العفو محمولة على القسم الأول وهذه الآية محمولة على القسم الثاني، وحينئذ يزول التناقض روي :"أن زينب أقبلت على عائشة تشتمها فنهاها النبي ﷺ عنها فلم تنته، فقال لها النبي ﷺ سبيها". وأيضاً فإنه تعالى لم يرغِّب ففي الانتصار بل بين أنه مشروع فقط، ثم بين أن مشروعيته مشروطة برعاية المماثلة بقوله تعالى :﴿وجزاء سيئة سيئة مثلها﴾ ثم بين أن العفو أولى بقوله تعالى :﴿فمن
٦٤٨
عفا﴾
أي : بإسقاط حقه كله أو بالنقص منه لتحقق البراءة مما حرم من المجاوزة ﴿وأصلح﴾ أي : أوقع الإصلاح بين الناس بالعفو والإصلاح لنفسه ليصلح الله ما بينه وبين الناس فيكون بذلك منتصراً من نفسه لنفسه ﴿فأجره على الله﴾ أي : المحيط بجميع صفات الكمال فهو يعطيه على حسب ما يقتضيه مفهوم هذا الاسم الأعظم، وهذا سر لفت الكلام إليه عن مظهر العظمة وقوله ﷺ "ما زاد الله بعفو إلا عزاً" ﴿إنه لا يحب الظالمين﴾ أي : لا يكرم الواضعين للشيء في غير محله فيترتب عليهم عقابه.
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٤٥
ولمن انتصر﴾
أي : سعى في نصر نفسه بجهده ﴿بعد ظلمه﴾ أي : بعد ظلم الغير له وليس قاصداً التعدي عن حقه ولو استغرق انتصاره جميع زمان التعدي ﴿فأولئك﴾ أي : المنتصرون لأجل دفع الظالم عنهم ﴿ما عليهم﴾ وأكد بإثبات الجار فقال تعالى :﴿من سبيل﴾ أي : عتاب ولا عقاب لأنهم فعلوا ما أبيح لهم من الانتصار روى النسائي عن عائشة قالت :"ما علمت حتى دخلت على زينب وهي غضبى، فأقبلت علي فأعرضت عنها حتى قال النبي ﷺ دونك فانتصري، فأقبلت عليها حين رأيتها قد يبس ريقها في فمها ما ترد علي شيئاً، فرأيت النبي ﷺ يتهلل وجهه". واحتجوا بهذه الآية على أن سراية القود مهدرة لأنه فعل مأذون فيه فيدخل تحت هذه الآية.
﴿إنما السبيل﴾ أي : الطريق السالك الذي لا منع منه أصلاً ﴿على الذين يظلمون الناس﴾ أي : يوقعون بهم ظلمهم تعمداً عدواناً ﴿ويبغون﴾ أي : يتجاوزون الحدود ﴿في الأرض﴾ بما يفسدها بعد إصلاحها بتهيئتها للصلاح طبعاً وعلماً وعملاً ﴿بغير الحق﴾ أي : الكامل لأن الفعل قد يكون بغياً وإن كانت مصحوباً بحق كالانتصار المقرون بالتعدي فيه ﴿أولئك﴾ أي : البعداء من الله تعالى ﴿لهم عذاب أليم﴾ أي : مؤلم يعم إيلامه أبدانهم وأرواحهم بما آلموا من ظلموه.
﴿ولمن صبر﴾ أي : عن الانتصار من غير انتقام ولا شكوى ﴿وغفر﴾ أي : صرح بإسقاط العقاب والعتاب بمحي عين الذنب وأثره ﴿فإن ذلك﴾ أي : الفعل الواقع منه البالغ في العلو حداً لا يوصف ﴿لمن عزم الأمور﴾ أي : معزوماتها بمعنى المطلوبات شرعاً. روي أنه ﷺ قال :"ما من عبد ظلم مظلمة فعفا لله إلا أعزه الله تعالى بها نصراً".
﴿ومن يضلل الله﴾ أي : الذي له صفات الكمال بأن لم يوفقه ﴿فما له من ولي﴾ أي : يتولى أمره في الهداية بالبيان لما أخفاه الله تعالى عنه ﴿من بعده﴾ أي : بعد إضلال الله تعالى له، وهذا صريح في جواز أن الإضلال من الله تعالى وأن الهداية ليست في مقدر أحد سوى الله تعالى وقال تعالى :﴿وترى الظالمين﴾ موضع وتراهم لبيان أن الضال لا يضع شيئاً في موضعه.
ولما كان عذابهم حتماً عبر عنه بالماضي فقال :﴿لما رأوا العذاب﴾ أي : يوم القيامة المعلوم مصير الظالم إليه ﴿يقولون﴾ أي : مكررين لما اعتراهم من الدهش وغلب على قلوبهم من الوجل ﴿هل إلى مرد﴾ أي : إلى دار العمل ﴿من سبيل﴾ أي : طريق فيتمنون حينئذ الرجوع إلى الدنيا لتدارك ما فات من الطاعات الموجبة للنجاة.
٦٤٩
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٤٥
﴿وتراهم﴾ أي : في ذلك اليوم والضمير في قوله تعالى :﴿يعرضون عليها﴾ يعود على النار لدلالة العذاب عليها. ثم ذكر حالهم عند عرضهم على النار بقوله تعالى :﴿خاشعين﴾ أي : خاضعين حقيرين بسبب ما لحقهم ﴿من الذل﴾ لأنهم عرفوا إذ ذاك ذنوبهم وانكشفت لهم عظمة من عصوه ﴿ينظرون﴾ أي : يبتدئ نظرهم المكرر ﴿من طرف﴾ أي : تحريك الأجفان ﴿خفي﴾ أي : ضعيف النظر يسارقون النظر إلى النار خوفاً منها وذلة في أنفسهم كما ينظر المقتول إلى السيف فلا يقدر (أن) يملأ عينه منه ولا يفتح عينه إنما ينظر ببعضها، ويصح أن تكون من بمعنى الباء أي : بطرف خفي ضعيف من الذل، فإن قيل : قد قال الله تعالى في صفة الكفار أنهم يحشرون عمياً فكيف قال تعالى هنا :﴿إنهم ينظرون من طرف خفي﴾ ؟
أجيب : بأنهم يكونون في الابتداء هكذا ثم يصيرون عمياً أو أن هذا في قوم وذاك في قوم آخرين، وقيل : ينظرون إلى النار بقلوبهم والنظر بالقلب خفي.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٥٠


الصفحة التالية
Icon