﴿فأهلكنا﴾ أي : فتسبب عن الاستهزاء بالرسل أنا أهلكنا ﴿أشد منهم﴾ أي : من قريش الذين يستهزؤون بك ﴿بطشاً﴾ أي : قوة وكان الأصل الإضمار ولكنه أظهر الضمير صارفاً أسلوب الخطاب إلى الغيبة إقبالاً على نبيه ﷺ تسلية له وإبلاغاً في وعيدهم ﴿ومضى﴾ أي : سبق في آيات الله ﴿مثل﴾ أي : صفة ﴿الأولين﴾ في الإهلاك وفي لك وعد للرسول ﷺ ووعيد لهم مثل ما جرى على الأولين واللام في قوله تعالى :
﴿ولئن﴾ لام قسم ﴿سألتهم﴾ أي : سألت قومك ﴿من خلق السموات﴾ على علوها وسعتها ﴿والأرض﴾ على كثرة عجائبها وعظمها وقوله تعالى :﴿ليقولن﴾ حذف منه نون الرفع لتوالي النونات وواو الضمير لالتقاء الساكنين ﴿خلقهن﴾ الذي هو موصوف بأنه ﴿العزيز﴾ أي : الذي لا يغالب ﴿العليم﴾ بما كان وما يكون.
تنبيه : هذا الجواب مطابق للسؤال من حيث المعنى إذ لو جاء على اللفظ لجيء فيه بجملة ابتدائية كالسؤال فكان الجواب هنا الله كما غيره من الآيات، لكنه عدل عنه إلى المطابقة المعنوية مكرراً للفعل تأكيداً لإغراقهم زيادة في توبيخهم وتنبيهاً على عظم غلطهم.
ولما تم الإخبار عنهم ابتدأ الأدلة على نفسه بذكر مصنوعاته فقال تعالى :
﴿الذي جعل لكم﴾ ولو كان ذلك قولهم لقالوا لنا :﴿الأرض مهاداً﴾ أي : فراشاً قارة ثابتة كالمهد للصبي ولو شاء لجعلها مزلة لا ينبت فيها شيء كما ترون من بعض الجبال، فالانتفاع بها إنما حصل لكونها واقفة ساكنة فإنها لو كانت متحركة ما أمكن الانتفاع بها في الزراعة والأبنية وستر عيوب الأحياء والأموات، ولأن المهد موضع راحة الصبي فكانت الأرض مهاداً لكثرة ما فيها من الراحات، وقرأ الكوفيون بفتح الميم وسكون الهاء والباقون بكسر الميم وفتح الهاء وألف بعد الهاء ﴿وجعل لكم فيها سبلاً﴾ أي : طرقاً تسلكونها وذلك أن انتفاع الناس إنما يكمل إذا سعوا في أقطار الأرض فهيأ تعالى تلك السبل ووضع عليها علامات ليحصل الانتفاع ولو شاء لجعلها بحيث لا يسكن في مكان منها كما جعل بعض الجبال كذلك ثم ذكر الغاية في ذلك فقال تعالى :﴿لعلكم تهتدون﴾ أي : لكي
٦٥٧
تهتدوا إلى مقاصدكم في الأسفار وغيرها فتتوصلون بها إلى الأقطار الشاسعة والأقاليم الواسعة أو لتهتدوا إلى الحق في الدين.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٥٥
﴿والذي نزل﴾ أي : بحسب التدريج ولولا قدرته تعالى الباهرة لكان دفعة واحدة أو قريباً منها ﴿من السماء﴾ أي : المحل العالي ﴿ماء﴾ أي : لزرعكم وثماركم وشرابكم بأنفسكم وأنعامكم ﴿بقدر﴾ أي : بقدر حاجتكم إليه من غير زيادة ولا نقصان لا كما أنزل على قوم نوح بغير قدر حتى أغرقهم ﴿فأنشرنا﴾ أي : أحيينا ﴿به﴾ أي : الماء ﴿بلدة﴾ أي : مكاناً يجتمع فيه للإقامة يعتنون بإحيائه يتعاونون على دوام إبقائه ﴿ميتاً﴾ أي : كان قد يبس نباته وعجز أهله عن إيصال الماء إليه ليحيا به، قال البقاعي : ولعله أنث البلد وذكر الميت إشارة إلى أن بلوغها في الضعف والموت بلغ الغاية بضعف أرضه في نفسها وضعف أهله عن إحيائه.
﴿كذلك﴾ أي : مثل هذا الإخراج العظيم الذي شاهدتموه في النبات ﴿تخرجون﴾ من قبوركم أحياء، والمعنى : أن هذا الدليل كما دل على قدرة الله تعالى وحكمته فكذلك يدل على قدرته على البعث والقيامة، ووجه التشبيه : أنه جعلهم أحياء بعد الإماتة كهذه الأرض التي انتشرت بعدما كانت ميتة، وقيل : بل وجه التشبيه أن يعيدهم ويخرجهم من الأرض بماء كالمني كما تنبت الأرض بماء المطر قال ابن عادل : وهذا ضعيف لأن ظاهر لفظ الإشارة الإعادة فقط دون هذه الزيادة. ثم شرع تعالى في إكمال ما تقتضيه الحال من الأوصاف فقال عز من قائل :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٥٨