﴿ولقد أرسلنا﴾ أي : بما ظهر من عظمتنا ﴿موسى﴾ أي : الذي كان يرى فرعون أنه أحق الناس بعظمته لأنه رباه وكفله ﴿بآياتنا﴾ التي قهر بها عظماء الخلق وبجابرتهم فدل ذلك على صحة دعواه ﴿إلى فرعون﴾ الذي ادعى أنه الرب الأعلى ﴿وملائه﴾ أي : القبط ﴿فقال﴾ أي : بسبب إرسالنا ﴿إني رسول رب العالمين﴾ أي : مالكهم ومدبرهم ومربيهم فقالوا له : ائت بآية فأتى بها.
﴿فلما جاءهم بآياتنا﴾ أي : بآيتي اليد والعصا اللتين شاهدوا فيهما عظمتنا ودلهم ذلك على قدرتنا على جميع الآيات ﴿إذا هم﴾ أي : بأجمعهم ﴿منها يضحكون﴾ أي : فاجؤا المجيء بها من غير توقف ولا تأمل بالضحك سخرية واستهزاء، قيل : إنه لما ألقى عصاه صارت ثعباناً فلما أخذه وصار عصا كما كانت ضحكوا.
ولما أعرض عليهم اليد البيضاء ثم عادت كما كانت ضحكوا :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٦٦
٦٧٠
﴿وما﴾ أي : والحال إنا ما ﴿نريهم﴾ على ما لنا من الجلال والعلو وأغرق في النفي بإثبات الجار فقال تعالى :﴿من آية﴾ أي : من آيات العذاب كالطوفان وهو ماء دخل بيوتهم ووصل إلى حلوق الجالسين سبعة أيام والجراد وغير ذلك ﴿الا هي أكبر﴾ أي : في الرتبة ﴿من أختها﴾ أي : التي تقدمت عليها بالنسبة إلى علم الناظرين لها ﴿وأخذناهم﴾ أي : أخذ قهر وغلبة ﴿بالعذاب﴾ أي : أنواع العذاب كالدم والقمل والضفادع والبرد الكبار الذي لم يعهد مثله ملتهباً بالنار وموت الإبكار فكانت آيات على صدق موسى عليه السلام بما لها من الإعجاز، وعذاباً لهم في الدنيا موصولاً بعذاب الآخرة فيا لها من قدرة باهرة وحكمة ظاهرة ﴿لعلهم يرجعون﴾ أي : ليكون حالهم عندنا إذا نظرهم الجاهل بالعواقب حال من يرجى رجوعه.
﴿و﴾ لما عاينوا العذاب ﴿قالوا﴾ لموسى أي : قال فرعون بالمباشرة وأتباعه بالموافقة له :﴿يا أيها الساحر﴾ فنادوه بذلك في تلك الحالة لشدة شكيمتهم وفرط حماقتهم، أو لأنهم كانوا يسمون العالم الماهر ساحراً ﴿ادع لنا ربك﴾ أي : المحسن إليك بما يفعل معك من هذه الأفعال التي نهيتنا بها إكراماً لك ﴿بما﴾ أي : بسبب ما ﴿عهد عندك﴾ أي : من كشف العذاب عنا إن آمنا ﴿إننا لمهتدون﴾ أي : مؤمنون.
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٧٠
فلما كشفنا﴾ أي : على ما لنا من العظمة التي ترهب الجبال ﴿عنهم العذاب﴾ أي : الذي أنزلناه بهم ﴿إذا هم ينكثون﴾ أي : فاجؤا الكشف بتجدد النكث بإخلاف بعد إخلاف.
﴿ونادى فرعون﴾ أي : زيادة على نكثه ﴿في قومه﴾ أي : الذين هم في غاية القيام معه وأمر كلاً منهم أن يشيع قوله إشاعة تعم البعيد والقريب فتكون كأنها مناداة إعلاماً بأنه مستمر على الكفر لئلا يظن بعضهم أنه رجع فيرجعون.
ولما كان كأنه قيل : بم نادى أجاب بقوله :﴿قال﴾ أي : خوفاً من إيمان القبط لما رأى من أن ما شاهدوه من باهر الآيات مثله يزلزل ويأخذ القلوب ﴿يا قوم﴾ مستعطفاً بإعلامهم أنهم لحمة واحدة ومستنهضاً بوصفهم بأنهم ذو قوة على ما يحاولنه مقرراً لهم على عذره في نكثه بقوله :﴿أليس لي﴾ أي : وحدي ﴿ملك مصر﴾ أي : كله فلا اعتراض علي من بني إسرائيل ولا غيرهم
٦٧١
﴿وهذه﴾ أي : والحال أن هذه ﴿الأنهار﴾ أي : أنهار النيل قال البيضاوي : ومعظمها أربعة : نهر الملك ونهر طولون ونهر دمياط ونهر تنيس، وقال البقاعي : كأنه كان قد أكثر من تشقيق الخلجان إلى بساتينه وقصوره ونحو ذلك من أموره فقال :﴿تجري من تحتي﴾ أي : تحت قصري أو أمري أو بين يدي في جناني وزاد في التقرير بقوله :﴿أفلا تبصرون﴾ أي : هذا الذي ذكرته لكم فتعلموا ببصائر قلوبكم أنه لا ينبغي لأحد أن ينازعني، وهذا لعمري قول من ضعفت قواه وانحلت عراه.
﴿أم أنا خير﴾ أي : مع ما وصفت لكم من ضخامتي وما لي من القدرة على إجراء المياه التي بها حياة كل شيء ﴿من هذا﴾ وكنى بإشارة القريب عن تحقيره ثم وصفه بما يبين مراده بقوله :﴿الذي هو معين﴾ أي : ضعيف حقير ذليل لأنه يتعاطى أموره بنفسه وليس له ملك ولا قوى يجري بها نهراً ولا ينفذ بها أمراً ﴿ولا يكاد يبين﴾ أي : لا يقرب من أن يعرب عن معنى من المعاني لما في لسانه من الحبسة، فلا هو قادر في نفسه ولا له قوة بلسانه على تصريف المعاني وتنويع البيان ليستجلب القلوب وينعش الألباب فتكثر أتباعه ويضخم أمره، وقد كذب في جميع قوله فقد كان موسى عليه السلام أبلغ أهل زمانه قولاً وفعلاً بتقدير الله تعالى الذي أرسله له وأمره إياه ولكن اللعين أسند هذا إلى ما بقي في لسانه من الحبسة تخييلاً لاتباعه لأن موسى عليه السلام ما دعا بإزالة جميع حبسته بل بعقدة منها فإنه قال ﴿واحلل عقدة من لسان يفقهوا قولي﴾ (طه : ٢٧ ـ ٢٨)
تنبيه : في أم من قوله أم أنا خير أقوال ؛ أحدها : أنها منقطعة فتقدر ببل التي لإضراب الانتقال وبالهمزة التي للإنكار، والثاني : أنها بمعنى بل فقط كقوله :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٧٠
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى ** وصورتها أم أنت في العين أملح*