﴿أم أبرموا﴾ أي : أحكم كفار مكة ﴿أمراً﴾ أي : في المكر برسول الله ﷺ وفي رد أمرنا ومعاداة أوليائنا مع علمهم بأنا مطلعون عليهم ﴿فإنا مبرمون﴾ أي : محكمون أمراً في مجازاتهم أي : مبرمون كيدنا كما أبرموا كيدهم كقوله تعالى :﴿أم يريدون كيداً فالذين كفروا هم المكيدون﴾ (الطور : ٤٢)
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٧٩
قال مقاتل : نزلت في تدبيرهم المكر في دار الندوة.
تنبيه : أم منقطعة والإبرام : الإتقان وأصله في الفتل يقال أبرم الحبل، أي : أتقن فتله وهو الفتل الثاني والأول يقال له سحيل قال زهير :
*لعمري لنعم السيدان وجدتما ** على كل حال من سحيل ومبرم*
﴿أم يحسبون أنا﴾ أي : على ما لنا من العظمة المقتضية لجميع صفات الكمال ﴿لا نسمع سرهم﴾ أي : كلامهم الخفي ولو كان في الضمائر فيما يغضبنا، والسر ما حدث به الشخص نفسه أو غيره في مكان خال.
ولما كان ربما وقع في الأوهام أن المراد بالسمع إنما هو العلم لأن السر ما يخفى وهو يعلم ما في الضمائر وهي مما يعلم حقق أن المراد به حقيقته بقوله تعالى :﴿ونجواهم﴾ أي : تناجيهم في كلامهم المرتفع فيما بينهم حتى كأنه على نجوة أي : مكان عال، فعلم أن المراد حقيقة السمع وأنه تعالى يسمع كل ما يمكن أن يسمع ﴿بلى﴾ نسمع الصنفين كليهما على حد سواء ﴿ورسلنا﴾ وهم الحفظة من الملائكة على الجميع السلام على ما لهم من العظمة بنسبتهم إلينا ﴿لديهم﴾ أي : عندهم، وقرأ حمزة بضم الهاء والباقون بكسرها ﴿يكتبون﴾ أي : يجددون الكتابة كل ما تجدد ما يقتضيها لأن الكتابة أوقع في التهديد لأن من علم أن أعماله محصاة مكتوبة يجتنب ما يخاف عاقبته، وعن يحيى بن معاذ الرازي : من ستر عن الناس ذنوبه وأبداها للذي لا يخفى عليه شيء في السموات فقد جعله أهون الناظرين إليه وهو من علامات النفاق.
ولما تقدم أول السورة تبكيتهم والتعجيب منهم في ادعائهم لله ولداً من الملائكة وهددهم بقوله تعالى :﴿ستكتب شهادتهم ويسألون﴾ أمر الله تعالى نبيه ﷺ أن يقول لهم :
﴿قل﴾ أي :
٦٨٠
لهؤلاء البعداء البغضاء ﴿إن كان للرحمن﴾ أي : العام الرحمة ﴿ولد﴾ أي : على زعمكم والمراد به الجنس لادعائهم في الملائكة وغيرهم ﴿فأنا﴾ أي : في الرتبة، وقرأ نافع بمد الألف بعد النون والباقون بغير مد ﴿أول العابدين﴾ للرحمن العبادة التي هي العبادة ولا يستحق غيرها أن يسمى عبادة وهي الخالصة أي : فأنا لا أعبد غيره لا ولداً ولا غيره، ولم يشأ لي الرحمن أن أعبد الولد ولا غيره، أو يكون المعنى : أنا أول العابدين للرحمن على وجه الإخلاص لم أشرك به شيئاً أصلاً في وقت من الأوقات بما سميتموه ولداً أو شريكاً أو غيرهما، ولو شاء ما عبدته على وجه الإخلاص ولا شك عندكم وعند غيركم أن من أخلص لأحد كان أولى من غيره برحمته فلو أن الإخلاص له ممنوع ما شاءه لي ولولا أن عبادة غيره ممنوعة لشاءها لي ولو أن له ولداً لشاء لي عبادته، فإن عموم رحمته لكافة خلقه لكونهم خلقه وخصوصها بي لكوني عبده خالصاً يمنع على زعمكم من أن يشقيني وأنا أخلص له فبطلت شبهتكم بمثلها بل بأقوى منها، وهذا مما علق بشيء هو بنقيضه أولى.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٧٩
وقال الزمخشري : إن كان للرحمن ولد وصح ذلك وثبت ببرهان صحيح توردونه وحجة واضحة تدلون بها فأنا أول من يعظم ذلك الولد وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له كما يعظم الرجل ولد الملك لتعظيم أبيه، وهذا كلام وارد على سبيل الفرض والتمثيل لغرض وهو المبالغة في نفي الولد والإطناب فيه وأن لا يترك الناطق به شبهة إلا مضمحلة مع الترجمة عن نفسه بثبات القدم في باب التوحيد، وذلك أنه علق العبادة بكينونة الولد وهي محال في نفسها فكان المعلق بها محالاً مثلها فهو في صورة إثبات الكينونة والعبادة وفي معنى نفيهما على أبلغ الوجوه وأقواها، ثم قال : وقد تمحل الناس بما أخرجوه من هذا الأسلوب الشريف المليء بالنكت والفوائد المستقل بإثبات التوحيد على أبلغ وجوهه فقيل : إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول العابدين الموحدين لله المكذبين قولكم بإضافة الولد إليه، وقيل : إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول الآنفين من أن يكون له ولد من عبد يعبد إذا اشتد أنفه فهو عبد وعابد.
وقال ابن عباس : إن أن نافية أي : ما كان له ولد فإني أول من عبده رتبة وما علمت له ولداً ولو كان له ولد إله لعبدته تقرباً إليه بعبادة ولده، وروي أن النضر بن عبد الدار بن قصي قال : إن الملائكة بنات الله تعالى فنزلت فقال النضر : ألا ترون أنه قد صدقني فقال له الوليد بن المغيرة : ما صدقك ولكن قال ما كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين الموحدين من أهل مكة أن لا ولد له ثم إنه تعالى نزه نفسه فقال :
﴿سبحان رب﴾ أي : مبدع ومالك ﴿السموات والأرض﴾ أي : اللتين كل ما فيهما ومن فيهما مقهور مربوب محتاج لا يصح أن يكون له منه سبحانه نسبة بغير العبودية بالإيجاد والتربية.


الصفحة التالية
Icon