وإذا تقاربت الأوصاف وجب القول بأن إحدى الليلتين هي الأخرى، رابعها : نقل محمد بن جرير الطبري في تفسيره عن قتادة أنه قال : نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، والتوراة لست ليال منه، والزبور لثنتي عشرة ليلة مضت منه، والقرآن لأربع وعشرين مضت من رمضان، والليلة المباركة هي : ليلة القدر، خامسها : أن ليلة القدر إنما سميت بهذا الاسم لأن قدرها وشرفها عند الله عظيم، ومعلوم أن قدرها وشرفها ليس بسبب نفس الزمان لأن الزمان شيء واحد في الذات والصفات فيمتنع كون بعضه أشرف من بعض لذاته فثبت أن شرفه وقدره بسبب أنه حصل فيه أمور شريفة لها قدر عظيم، ومن المعلوم أن منصب الدين أعظم من مناصب الدنيا، وأعظم الأشياء وأشرفها شعباً في الدين هو القرآن لأنه ثبت به نبوة محمد ﷺ وبه ظهر الفرق بين الحق والباطل كما قال تعالى في صفته :﴿ومهيمناً عليه﴾ (المائدة : ٤٨)
وبه ظهرت درجات أرباب السعادات ودركات أرباب الشقاوات فعلى هذا لا شيء إلا والقرآن أعظم قدراً وأعلى ذكراً وأعظم منصباً، وحيث أطبقوا على أن ليلة القدر هي التي وقعت في رمضان علمنا أن القرآن إنما أنزل في تلك الليلة وهذه أدلة ظاهرة واضحة، واحتج الآخرون على أنها ليلة النصف من شعبان بوجوه ؛ أولها : أن لها أربعة أسماء الليلة المباركة وليلة البراءة وليلة الصك وليلة الرحمة، وقيل : بينها وبين ليلة القدر أربعون ليلة.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٨٤
وقيل في تسميتها : ليلة البراءة والصك أن البندار إذا استوفى الخراج من أهله كتب لهم البراءة وكذلك الله تعالى يكتب لعباده المؤمنين البراءة في هذه الليلة، ثانيها : أنها مختصة بخمس خصال الأولى : قال تعالى :﴿فيها يفرق كل أمر حكيم﴾ والثانية : فضيلة العبادة فيها، روى
٦٨٥
الزمخشري أنه ﷺ قال :"من صلى في هذه الليلة مائة ركعة أرسل الله تعالى إليه مائة ملك : ثلاثون يبشرونه بالجنة، وثلاثون يؤمنونه من عذاب النار، وثلاثون يدفعون عنه آفات الدنيا، وعشرة يدفعون عنه مكايد الشيطان". ثالثها : نزول الرحمة قال ﷺ "إن الله يرحم أمتي في هذه الليلة بعدد شعر أغنام بني كلب". رابعها : حصول المغفرة فيها قال ﷺ "إن الله يغفر لجميع المسلمين في تلك الليلة إلا الكاهن والساحر ومدمن الخمر وعاق والديه والمصر على الزنا". خامسها : أنه تعالى أعطى رسول الله ﷺ في هذه الليلة تمام الشفاعة في أمته، قال الزمخشري : وذلك أنه سأل ليلة الثالث عشر من شعبان في أمته فأعطي الثلث منها ثم سأل ليلة الرابع عشر فأعطي الثلثين ثم سأل ليلة الخامس عشر فأعطي الجميع إلا من شرد عن الله شرود البعير.
وروي أن عطية الحروري سأل ابن عباس عن قوله تعالى :﴿إنا أنزلناه في ليلة القدر﴾ (القدر : ١)
كيف يصح ذلك مع أن الله تعالى أنزل القرآن في جميع الشهور فقال ابن عباس : يا ابن الأسود لو هلكت أنا ووقع في نفسك هذا ولم تحرجوا به لهلكت، نزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى البيت المعمور في السماء الدنيا، ثم نزل بعد ذلك في أنواع الوقائع حالاً فحالاً، وقال قتادة وابن زيد : أنزل الله تعالى القرآن في ليلة القدر من أم الكتاب إلى السماء الدنيا ثم نزل به جبريل عليه السلام على النبي ﷺ نجوماً في عشرين سنة وقوله تعالى ﴿إنا﴾ أي : على ما لنا من العظمة ﴿كنا﴾ أي : دائماً لعبادنا ﴿منذرين﴾ أي : مخوفين استئناف بين به المقتضى للإنزال وكذلك قوله تعالى :
﴿فيها﴾ أي : الليلة المباركة سواء قلنا إنها ليلة القدر أو ليلة النصف ﴿يفرق﴾ أي : ينشر ويبين ويفصل ويوضح مرة بعد مرة ﴿كل أمر حكيم﴾ أي : محكم الأمر لا يستطاع أن يطعن فيه بوجه من جميع ما يوحي به من الكتب وغيرها والأرزاق والآجال والنصر والهزيمة والخصب والقحط وغيرها من جميع أقسام الحوادث وجزئياتها في أوقاتها وأماكنها، ويبين ذلك للملائكة من تلك الليلة إلى مثلها من العام المقبل فيجدونه سواء فيزدادون بذلك إيماناً، قال ابن عباس : يكتب في أم الكتاب في ليلة القدر ما هو كائن في السنة من الخير والشر والأرزاق والآجال حتى الحجاج يقال : يحج فلان ويحج فلان، وقال الحسن ومجاهد وقتادة : يبرم في ليلة القدر في شهر رمضان كل عمل وأجل وخلق ورزق وما يكون في تلك السنة، وقال عكرمة : ليلة النصف من شعبان يبرم فيها أمر السنة وتنسخ الأحياء من الأموات فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أحد قال ﷺ "تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى إن الرجل لينكح النساء ويولد له وقد خرج اسمه في ديوان الموتى".
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٨٤
وعن ابن عباس : أن الله تعالى يقضي الأقضية في ليلة النصف من شعبان ويسلمها إلى أربابها في ليلة القدور، وروي : أن الله تعالى أنزل القرآن من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة ووقع الفراغ
٦٨٦