﴿إن المتقين﴾ أي : العريقين في هذا الوصف ﴿في مقام﴾ أي : موضع إقامة لا يريد الحال فيه تحولاً عنه ﴿أمين﴾ أي : يأمن صاحبه فيه من كل ما لا يعجبه، وقرأ نافع وابن عامر بفتح الميم أي : في مجلس أمين، والباقون بضمها على المصدر أي : في إقامة وقوله تعالى :
﴿في جنات﴾ أي : بساتين تقصر العقول عن إدراك كل وصفها، بدل من قوله تعالى في مقام أمين أو خبر ثان وقرأ ﴿وعيون﴾ ابن كثير وابن ذكوان وشعبة وحمزة والكسائي بكسر العين، والباقون بضمها.
ولما كان لا يتم العيش إلا بكسوة البدن أشار إلى ذلك بقوله تعالى :
﴿يلبسون﴾ ودل على الكثرة جداً بقوله تعالى :﴿من سندس﴾ وهو ما رق من الحرير يعمل وجوهاً ﴿وإستبرق﴾ هو ما غلظ منه يعمل بطائن، وسمي بذلك : لشدة بريقه وقوله تعالى :﴿متقابلين﴾ أي : في مجلسهم ليستأنس بعضهم ببعض حال وقوله :﴿يلبسون﴾ حال من الضمير المستكن في الجار أو خبر ثان فيتعلق الجار به أو مستأنف، فإن قيل : الجلوس على هذه الهيئة موحش لأن كل واحد منهم يصير مطلعاً على ما يفعل الآخر وأيضاً فقليل الثواب إذا طلع على كثيره ينغص عليه ؟
أجيب : بأن أحوال الآخرة ليست كأحوال الدنيا وقد قال تعالى ﴿ونزعنا ما في صدورهم من غل﴾ (الأعراف : ٤٣)
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٩٥
وقوله تعالى :
﴿كذلك﴾ يجوز فيه وجهان ؛ أحدهما : النصب نعتاً لمصدر أي : نفعل بالمتقين فعلاً كذلك أي : مثل ذلك الفعل، ثانيهما : الرفع على خبر مبتدأ مضمر أي : الأمر كذلك.
ولما كان ذلك لا يتم السرور به إلا بالأزواج قال تعالى :﴿وزوجناهم﴾ أي : قرناهم كما تقرن الأزواج وليس المراد به العقد لأن فائدة العقد الحل والجنة ليست بدار تكليف من تحليل أو تحريم ﴿بحور﴾ أي : جوار بيض حسان نقيات الثياب ﴿عين﴾ أي : واسعات الأعين قال البيضاوي : واختلف في أنهن نساء الدنيا أو غيرهن.
ولما كان الشخص في الدنيا يخشى كلف النفقات وصف ما هنالك من سعة الخيرات فقال تعالى :
﴿يدعون﴾ أي : يطلبون طلباً هو غاية المسرة ﴿فيها﴾ أي : الجنة أي : يؤتون ﴿بكل فاكهة﴾ أي : لا يمتنع عليهم صنف من الأصناف لبعد مكان ولا فقدان ولا غير ذلك من الشأن، وفي ذلك إيذان بأنه مع سعته ليس فيه شيء لإقامة البنية وإنما هو للتفكه والتلذذ حال كونهم مع ذلك ﴿آمنين﴾ في غاية الأمن من كل مخوف.
﴿لا يذوقون فيها﴾ أي : الجنة ﴿الموت﴾ لأنها دار خلود لا دار فناء وقوله تعالى ﴿إلا الموتة الأولى﴾ فيه أوجه ؛ أحدها : أنه استثناء منقطع أي : لكن الموتة الأولى قد ذاقوها، ثانيها : أنه متصل وتأولوه بأن المؤمن عند موته في الدنيا يصير بلطف الله كأنه في الجنة لاتصاله بأسبابها ومشاهدته إياها وما يعطاه من نعيمها فكأنه مات فيها، ثالثها : أن إلا بمعنى سوى أي : سوى الموتة التي ذاقوها في الدنيا كما في قوله تعالى :﴿ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف﴾ (النساء : ٢٢)
أي : سوى ما قد سلف، رابعها : أن إلا بمعنى بعد، أي : لا يذوقون فيها الموت بعد الموتة الأولى في الدنيا واختاره الطبري لكن نوزع بأن إلا بمعنى بعد لم يثبت وقد يجاب : بأن من حفظ حجة على من لم يحفظ، خامسها : قال الزمخشري : أريد أن يقال لا يذوقون فيها الموت البتة فوضع قوله :﴿إلا الموتة الأولى﴾ موضع ذلك لأن الموتة الماضية محال ذوقها في المستقبل فهو من باب التعليق بالمحال، كأنه قيل : إن كانت الموتة الأولى يستقيم ذوقها في
٦٩٨
المستقبل فإنهم يذوقونها، سادسها : المراد بالمتقين أعم من الراسخين وغيرهم وإن ضمير فيها يرجع للآخرة، فالعاصي إذا أراد الله تعالى تعذيبه بالنار يذيقه فيها موتة أخرى كما جاء في الأحاديث الصحيحة فيكون على المجموع، سابعها : أن الموتة الأولى في الجنة المجازية فلا يكون ذلك بالمحال وذلك أن المتقي لم يزل فيها في الدنيا.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٩٥
قال بعض العلماء : الدنيا إذا تحققت في حق المؤمن التقي فإنها جنة صغرى لتوليه سبحانه إياه فيها وقربه منه ونظره إليه وذكره له وعبادته إياه وشغله به وهو معه أينما كان، فإن قيل : أهل النار لا يذوقون الموت أبداً فلم بشر أهل الجنة بهذا مع أن أهل النار يشاركونهم فيه ؟
أجيب : بأن البشارة ما وقعت بدوام الحياة فقط بل مع حصول تلك الخيرات والسعادات فافترفا ﴿ووقاهم﴾ أي : المتقين ﴿عذاب الجحيم﴾ أي : التي تقدم أنها لكل كفار أثيم وأما غير المتقين من العصاة فيدخل الله تعالى من أراد منهم النار فيعذب كلاً منهم على قدر ذنوبه ثم يميتهم فيها ويستمرون إلى أن يأذن الله تعالى في الشفاعة فيهم، فيخرجهم ثم يحييهم بما يرش عليهم من ماء الحياة، ثم يدخلهم الله تعالى الجنة.