﴿وإذا﴾ أي : وكنتم إذا ﴿قيل﴾ أي : من أي قائل كان ولو على سبيل التأكيد ﴿إن وعد الله﴾ أي : الذي كل أحد يعلم أنه محيط بصفات الكمال ﴿حق﴾ أي : ثابت لا محيد عنه مطابق للواقع من البعث وغيره لأن أقل الملوك لا يرضى بأن يخلف وعده فكيف به سبحانه وتعالى فكيف إذا كان الإخلاف فيه متناقضاً للحكم وقرأ ﴿والساعة﴾ حمزة بالنصب عطفاً على وعد الله، والباقون برفعها وفيه ثلاثة أوجه ؛ أحدها : الابتداء وما بعدها من الجملة المنفية وهو قوله تعالى ﴿لا ريب﴾ أي : لا شك ﴿فيها﴾ خبرها، ثانيها : العطف على محل اسم إن لأنه قبل دخولها مرفوع بالابتداء، ثالثها : أنه عطف على محل إن واسمها معاً لأن بعضهم كالفارسي والزمخشري يرون أن لأن واسمها موضعاً وهو الرفع بالابتداء ﴿قلتم﴾ أي : راضين لأنفسكم بحضيض الجهل ﴿ما ندري﴾ أي : الآن دراية علم ولو بذلنا جهدنا في محاولة الوصول إليه ﴿ما الساعة﴾ أي : لا نعرف حقيقتها فضلاً عما تخبروننا به من أحوالها.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٧٠٨
تنبيه : الساعة هنا مرفوعة باتفاق ﴿إن﴾ أي : ما ﴿نظن﴾ أي : نعتقد ما تخبروننا به عنها ﴿إلا ظناً﴾ وأما وصوله إلى درجة العمل فلا ﴿وما نحن﴾ وأكدوا النفي فقالوا ﴿بمستيقنين﴾ أي : بموجود عندنا اليقين في أمرها، قال الرازي : القوم كانوا في هذه المسألة على قولين : منهم من كان قاطعاً بنفي البعث والقيامة وهم المذكورون في قوله تعالى ﴿وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا﴾ ومنهم من كان شاكاً متحيراً فيه لأنهم لكثرة ما سمعوه من الرسل عليهم السلام ولكثرة ما سمعوه من دلائل القول بصحته صاروا شاكين فيه وهم المذكورون في هذه الآية، ويدل على ذلك أنه حكى تعالى مذهب أولئك القاطعين ثم أتبعه بحكاية قول هؤلاء فوجب كون هؤلاء مغايرين للفريق الأول.
ولما وصلوا إلى حد عظيم من العناد التفت إلى أسلوب الغيبة إعراضاً عنهم إيذاناً بشدة الغضب عليهم فقال تعالى :
﴿وبدا﴾ أي : ولم يزالوا يقولون ذلك إلى أن بدت لهم الساعة بما فيها من الأوجال والزلازل والأهوال وظهر ﴿لهم﴾ غاية الظهور ﴿سيئات ما عملوا﴾ في الدنيا فتمثلت لهم وعرفوا مقدار جزائها واطلعوا على جميع ما يلزم على ذلك ﴿وحاق﴾ أي : أحاط ﴿بهم﴾ على حال القهر والغلبة قال أبو حيان : ولا يستعمل إلا في المكروه ﴿ما كانوا﴾ جبلة وطبعاً ﴿به يستهزئون﴾ أي : يوجدون الهزء به على غاية الشهوة واللذة إيجاد من هو طالب لذلك، وهذا كالدليل على أن هذه الفرقة لما قالوا إن نظن إلا ظناً إنما ذكروه استهزاء وسخرية فصار هذا الفريق أشر من الفريق الأول، لأن الأولين كانوا منكرين وما كانوا مستهزئين وهؤلاء ضموا إلى الإصرار على الإنكار الاستهزاء، وقرأ حمزة في الوقف بتسهيل الهمزة بعد الزاي كالواو وله أيضاً إبدالها ياء ونقل عنه أيضاً غير ذلك.
﴿وقيل﴾ أي : لهم على أفظع الأحوال وأشدها قولاً لا معقب له فكأنه بلسان كل قائل
٧١٢
﴿اليوم ننساكم﴾ أي : نترككم في العذاب ﴿كما نسيتم لقاء يومكم هذا﴾ أي : كما تركتم الإيمان والعمل للقائه، وقيل : نجعلكم منزلة الشيء المنسي غير المبالى به كما لم تبالوا أنتم بلقاء يومكم هذا ولم تلتفتوا إليه ﴿ومأواكم النار﴾ ليس لكم براح عنها ﴿وما لكم من ناصرين﴾ ينقذونكم من ذلك بشفاعة ولا مقاهرة فجمع الله تعالى عليهم من وجوه العذاب ثلاثة أشياء : قطع الرحمة عنهم، وتصيير مأواهم النار، وعدم الأنصار ؛ لأنهم أتوا بثلاثة أنواع من الأعمال القبيحة وهي : الإصرار على إنكار الدين الحق، والاستهزاء به والسخرية، والاستغراق في حب الدنيا. وهو المراد بقوله تعالى :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٧٠٨
ذلكم﴾ أي : العذاب العظيم ﴿بأنكم اتخذتم﴾ أي : بتكليف منكم لأنفسكم ﴿آيات الله﴾ أي : الملك الأعظم ﴿هزواً﴾ أي : استهزاء بها ولم تتفكروا فيها، وقرأ ﴿اتخذتم﴾ ابن كثير وحفص بإظهار الذال عند التاء والباقون بالإدغام ﴿وغرتكم الحياة الدنيا﴾ الدنيئة لضعف عقولكم فآثرتموها لكونها حاضرة وأنتم كلابها فقلتم : لا حياة غيرها ولا بعث ولا حساب ولو تعقلتم وصفكم لها لأداكم إلى الإقرار بالآخرة ﴿فاليوم﴾ أي : بعد إيوائهم فيها ﴿لا يخرجون منها﴾ أي : النار لأن الله تعالى لا يخرجهم ولا يقدر غيره على ذلك، وقرأ حمزة والكسائي بفتح الياء التحتية وضم الراء، والباقون بضم الياء وفتح الراء ﴿ولا هم يستعتبون﴾ أي : لا يطلب من طالب ما منهم الإعتاب وهو الاعتذار لأنه لا يقبل ذلك اليوم عذر ولا توبة.
ولما تم الكلام في المباحث الروحانية ختم السورة بتحميد الله تعالى فقال عز من قائل :
﴿فلله﴾ أي : الذي له الأمر كله ﴿الحمد﴾ أي : الإحاطة بجميع صفات الكمال ﴿رب السموات﴾ أي : ذوات العلو والاتساع والبركات ﴿ورب الأرض﴾ أي : ذات القبول للواردات ﴿رب العالمين﴾ أي : خالق ما ذكر إذ الكلُّ نعمة منه دال على كمال قدرته فاحمدوا الله الذي هو خالق السموات والأرضين وخالق كل العالمين من الأجسام والأرواح والذوات والصفات، فإن هذه توجب الحمد والثناء على كل من المخلوقين والمربوبين.
ولما أفاد ذلك غناه الغنى المطلق وسيادته وأنه لا كفء له عطف عليه بعض اللوازم لذلك تنبيهاً على مزيد الاعتناء به لدفع ما يتوهمونه من ادعاء الشركة التي لا يرضونها لأنفسهم فقال تعالى :
﴿وله﴾ أي : وحده ﴿الكبرياء﴾ أي : الكبر الأعظم الذي لا نهاية له ﴿في السموات﴾ كلها ﴿والأرض﴾ جميعاً اللتين فيهما آيات الموقنين روي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله ﷺ "يقول الله عز وجل : الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحداً منهما أدخلته النار". وفي رواية عذبته وفي رواية قصمته ﴿وهو﴾ وحده ﴿العزيز﴾ الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء ﴿الحكيم﴾ الذي يضع الأشياء في مواضعها ولا يضع شيئاً إلا كذلك كما أحكم أمره ونهيه وجميع شرعه، وأحكم نظم هذا القرآن جملاً وآيات وفواصل وغايات بعد أن حرر معانيه وتنزيله فصار معجزاً في نظمه ومعناه وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه ﷺ قال :"من قرأ سورة حم الجاثية ستر الله عورته وسكن روعته يوم الحساب" حديث موضوع.
٧١٣
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٧٠٨