ويقدر على كل شيء فهو بحيث يجيب الدعاء، ويكشف البلاء ويحقق الرجاء إذا شاء، ويدبر عبده لما يعلم من سرّه وعلنه بما لا يقدر هو على تدبير نفسه به، ويريد العبد في كثير من الأشياء ما لو وكل فيه إلى نفسه، وأجيب إلى طلبته، كان فيه حتفه فيدبره سبحانه بما تشتدّ كراهته له، فيكشف الحال على أنه لم يكن له فرج إلا فيه. ﴿من لا يستجيب له﴾ أي : لا توجد الإجابة، ولا يطلب إيجادها من الأصنام وغيرها، لأنه لا أهلية له لذلك. والمعنى : أنه لا أحد أبعد عن الحق وأقرب إلى الجدل، ممن يدعو من دون الله الأصنام، فيتخذها آلهة ويعبدها وهي إذا دعيت لا تسمع ولا تجيب لا في الحال، ولا في المآل ﴿إلى يوم القيامة﴾ وإنما جعل ذلك غاية ؛ لأنّ يوم القيامة قد قيل : إن الله تعالى يحييها ويخاطب من يعبدها. فلذلك جعله الله تعالى حدّاً وقيل المراد عبدة الملائكة وعيسى وأنهم يوم القيامة يظهرون عبادة هؤلاء العابدين. ﴿وهم عن دعائهم﴾ أي : دعاء المشركين إياهم. ﴿غافلون﴾ أي : لهم هذا الوصف لا ينفكون عنه لا يعلمون من يدعوهم ومن لا يدعوهم وعبر بالغفلة التي هي من أوصاف العقلاء للجماد تغليباً إن كان المراد أعمّ من الأصنام وغيرها مما عبدوه من عقلاء الإنس وغيرهم ولما غيّا سبحانه بيوم القيامة فأفهم أنهم يستجيبون لهم فيه، بيّن ما يحاورونهم به إذ ذاك. فقال تعالى :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٧١٤
﴿وإذا حشر﴾ أي : جمع بكره على أيسر وجه وأسهل أمر. ﴿الناس﴾ أي : يوم القيامة ﴿كانوا﴾ أي : المدعوّون ﴿لهم﴾ أي : الداعين ﴿أعداء﴾ ويعطيهم الله تعالى قوّة الكلام فيخاطبونهم بكل ما يخاطب به العدوّ عدوّه ﴿وكانوا﴾ أي : المعبودون ﴿بعبادتهم﴾ أي : الداعين وهم المشركون إياهم.
﴿كافرين﴾ أي : جاحدين لأنهم كانوا عنها غافلين، كما قال تعالى في سورة يونس عليه السلام ﴿وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون﴾ (يونس : ٢٨) ثم بين تعالى أنهم في نهاية الغباوة بإنكار ما لا شيء أبين منه. بقوله سبحانه :
﴿وإذا تتلى﴾ أي : تقرأ من أي قارئ كان على وجه المتابعة ﴿عليهم﴾ أي : هؤلاء البعداء البغضاء ﴿آياتنا﴾ التي لا أعظم منها في أنفسها بإضافتها إلينا وهي القرآن وقوله تعالى :﴿بينات﴾ أي : ظاهرات حال قالوا هكذا كان الأصل. ولكنه تعالى بين الوصف الحامل لهم على القول فقال عز وجل :﴿قال الذين كفروا﴾ أي : ستروا تلك الأنوار التي أبرزتها تلك التلاوة لها هكذا كان الأصل ولكن قال تعالى ﴿للحق﴾ أي : لأجله ﴿لما﴾ أي : حين ﴿جاءهم﴾ أي : من غير نظر وتأمّل ﴿هذا﴾ أي : الذي يتلى ﴿سحر﴾ أي : خيال لا حقيقة له ﴿مبين﴾ أي : ظاهر في أنه خيال باطل.
وقوله تعالى :﴿أم يقولون افتراه﴾ إضراب عن ذكر تسميتهم إياه سحراً إلى ذكر ما هو أشنع وإنكار له وتعجب، ثم بين تعالى بطلان شبهتهم بقوله تعالى :﴿قل﴾ أي : يا أشرف الخلق ﴿إن افتريته﴾ أي : تعمدت كذبه على زعمكم وأنا إنما أريد به نصيحتكم فالذي أفتريه عليه وأنسبه إليه يعاقبني على ذلك ولا يتركني أصلاً وذلك هو معنى قوله :﴿فلا تملكون﴾ أي : أيها المنصوحون بوجه من الوجوه ولا في وقت من الأوقات. ﴿لي من الله﴾ أي : المتكبر الحليم ﴿شيئاً﴾ من الأشياء لما يردّ عني انتقامه لأنّ الملك لا يترك من كذب عليه مطلق كذب فكيف من يتعمد الكذب عليه في الرسالة بأمور عظيمة وملازمته مساءً وصباحاً فأيّ حامل لي حينئذ على افترائه ؟
ثم علل ما أفاده الكلام من وجوب الانتقام بقوله :﴿هو﴾ أي : الله سبحانه ﴿أعلم﴾ أي : منكم ومن كل أحد
٧١٦
﴿بما تفيضون فيه﴾ أي : بما تخوضون فيه من التكذيب بالقرآن والقول فيه بأنه سحر. ﴿كفى به شهيداً﴾ أي : شاهداً بليغ الشهادة لأنه أعلم بجميع أحوالنا.
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٧١٦
بيني وبينكم﴾ أي أن القرآن جاء من عنده فيشهد لي بالصدق ولكم بالكذب، وقد شهد بصدقي بعجزكم عن معارضة شيء من هذا الكتاب الذي أتيت به فثبت بذلك أنه كلامه لأني لا أقدر على ما تقدرون عليه فرادى ولا مجتمعين، وأنتم عرب مثلي، بل وأنا أمّي وفيكم أنتم الكتبة، والذين خالطوا العلماء، وسمعوا أحاديث الأمم، وضربوا بعد بلاد العرب في بلاد العجم، فظهر بذلك ظهور الشمس أنكم كاذبون ﴿وهو﴾ أي : وحده ﴿الغفور﴾ أي : الذي من شأنه أن يمحو الذنوب أعيانها وآثارها فلا يعاقب عليها ولا يعاتب ﴿الرحيم﴾ أي الذي يكرم بعد المغفرة ويتفضل بالتوفيق لما يرضيه قال الزجاج : هذا دعاء إلى التوبة ومعناه غفور لمن تاب منكم رحيم به ولما حكى تعالى طعنهم في كون القرآن معجزاً بقولهم : إنه يختلقه من عند نفسه ثم ينسبه إلى أنه كلام الله تعالى على سبيل الفرية حكى عنهم شبهة أخرى وهو أنهم كانوا يقترحون عليه معجزات عجيبة، ويطالبونه بأن يخبرهم عن المغيبات، فأجاب الله تعالى عن ذلك. بقوله عز وجل :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٧١٦