تنبيه : قال البقاعي : وجعل النافي إن ؛ لأنها أبلغ من ﴿ما﴾ لأن ما تنفى تمام الفوت، لتركبها من الميم والألف التي حقيقة إدراكها فوت تمام الإدراك. وإن تنفي أدنى مظاهر مدخولها، فكيف بما وراء من تمامه ؟
لأنّ الهمزة أوّل مظهر لفوت الألف، والنون لمطلق الإظهار. هذا إلى ما في ذلك من عذوبة اللفظ، وصونه عن ثقل التكرار، إلى غير ذلك من بديع الأسرار ا. ه.
وقال الزمخشريّ : إن نافية أي : فيما ما مكناكم فيه إلا أن إن أحسن في اللفظ، لما في مجامعة ما بمثلها من التكرار المستبشع، ومثله مجتنب. ألا ترى أنّ الأصل في مهما ما ما فلبشاعة التكرير قلبوا الألف هاء ولقد أغث أبو الطيب في قوله :
*لعمرك ما ما بان منك لضارب
وما ضرّه لو اقتدى بعذوبة لفظ التنزيل فقال :
لعمرك ما إن بان منك لضارب. وقد جعلت إن صلة مثلها فيما أنشده الأخفش رحمه الله تعالى :
*يرجى المرء ما إن لا يراه
** وتعرض دون أدناه الخطوب
وتؤوّل بأنا مكناهم في مثل ما مكناكم فيه والوجه هو الأوّل ﴿وجعلنا لهم﴾ أي على ما اقتضته عظمتنا ﴿سمعاً﴾ وأفرده لقلة التفاوت فيه ﴿وأبصاراً﴾ وجمعه لكثرة التفاوت في أنوار الأبصار، وكذا في قوله تعالى :﴿وأفئدة﴾ أي : فتحنا عليهم أبواب النعم، وأعطيناهم سمعاً فما استعملوه في سماع الدلائل. وأعطيناهم أبصاراً فما استعملوها في دلائل ملكوت السموات والأرض وأعطيناهم أفئدة، أي : قلوباً فما استعملوها في طلب معرفة الله تعالى، بل صرفوا كل هذه القوى إلى طلب الدنيا ولذاتها. فلا جرم قال تعالى :﴿فما أغنى عنهم﴾ في حال إرسالنا إليهم
٧٢٩
الرحمة على لسان هود عليه السلام ثم النقمة بيد الريح ﴿سمعهم﴾ وأكد النفي بتكرير النافي بقوله تعالى :﴿ولا أبصارهم﴾ وكذا في قوله تعالى :﴿ولا أفئدتهم﴾ أردنا إهلاكهم، وأكد بإثبات الجار بقوله تعالى :﴿من شيء﴾ أي : من الأشياء وإن قل وقال الجلال المحلي إنّ ﴿من﴾ زائدة وقوله تعالى :﴿إذ﴾ معمولة لأغنى وأشربت معنى التعليل. أي : لأنهم ﴿كانوا﴾ أي : طبعاً وخلقاً ﴿يجحدون﴾ أي : يكرّرون على ممر الزمان الجحد ﴿بآيات الله﴾ أي : الإنكار لما يعرب عن دلائل الملك الأعظم ﴿وحاق﴾ أي : نزل ﴿بهم ما كانوا به يستهزئون﴾ لأنهم ؛ كانوا يطلبون نزول العذاب على سبيل الاستهزاء ولما تم المراد من الإخبار بهلاكهم على ما لهم من المكنة العظيمة ليتعظ بهم من سمع أمرهم أتبعهم من كان مشاركاً لهم في التكذيب فشاركهم في الهلاك فقال تعالى :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٧٢٦
﴿ولقد أهلكنا﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿ما حولكم﴾ يا أهل مكة ﴿من القرى﴾ كحجر ثمود وعاد وأرض سدوم وسبأ ومدين والأيكة وقوم لوط وفرعون وأصحاب الرس، وغيرهم ممن فيهم معتبر ﴿وصرّفنا﴾ أي : بينا ﴿الآيات﴾ أي : الحجج البينات ﴿لعلهم﴾ أي : الكفار ﴿يرجعون﴾ أي : ليكونوا عند من يعرف حالهم في رؤية الآيات، حال من يرجع عن الغيّ الذي كان يرتكبه، لتقليد أو شبهة كشفتها الآيات وفضحتها الدلالات ؛ فلم يرجعوا فكان عدم رجوعهم سبب إهلاكهم. ﴿فلولا﴾ أي : فهلا ولم لا ﴿نصرهم الذين﴾ أي : نصر هؤلاء المهلكين الذين ﴿اتخذوا﴾ أي : اجتهدوا في صرف أنفسهم عن دواعي العقل حتى أخذوا. ﴿من دون الله﴾ أي : الملك الذي هو أعظم من كل عظيم ﴿قرباناً﴾ أي : متقرباً بهم إلى الله تعالى :﴿آلهة﴾ معه وهم الأصنام ومفعول اتخذوا الأوّل ضمير محذوف يعود على الموصول أي : هم، وقرباناً المفعول الثاني، وآلهة بدل منه ﴿بل ضلوا﴾ أي : غابوا ﴿عنهم﴾ وقت نزول النقمة. وقرأ الكسائي بإدغام اللام في الضاد، والباقون بالإظهار ﴿وذلك﴾ أي : اتخاذهم الأصنام آلهة قرباناً ﴿إفكهم﴾ أي : كذبهم ﴿وما كانوا﴾ أي : على وجه الدوام لكونه في طباعهم ﴿يفترون﴾ أي : يتعمدون كذبه، لأنّ إصرارهم عليه بعد مجيء الآيات لا يكون إلا كذلك، لأنّ من نظر فيها مجرداً نفسه عن الهوى اهتدى. ﴿وإذ﴾ أي : واذكر إذ ﴿صرفنا﴾ أي : أملنا ﴿إليك نفراً﴾ وهو اسم يطلق على ما دون العشرة وسيأتي في ذلك خلاف ﴿من الجنّ﴾ أي جنّ نصيبين اليمن، أو جنّ نينوى ﴿يستمعون القرآن﴾ أي : يطلبون سماع الذكر الجامع لكل خير الفارق بين كل ملبس، وأنت في صلاة الفجر في نخلة، تصلي بأصحابك ﴿فلما حضروه﴾ أي : صاروا بحيث يستمعونه ﴿قالوا﴾ أي : قال بعضهم لبعض، ورضي الآخرون ﴿أنصتوا﴾ أي : اسكتوا، وميلوا بكلياتكم، واستمعوا. حفظاً للأدب على بساط الخدمة وفيه تأدب مع العلم في تعلمه. قال القشيري : فأهّل الحضور صفتهم الذبول والسكون والهيبة والوقار.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٧٣٠


الصفحة التالية
Icon