فقالوا ﴿ومن لا يجب﴾ أي : لا يتجدد منه أن يجيب ﴿داعي الله﴾ أي : الملك الذي لا كفء له ﴿فليس بمعجز﴾ أي : لا يعجز الله عز وجلّ بالهرب منه ﴿في الأرض﴾ فيفوته فإنه أيّ مكان سلك فيها فهو في ملكه وملكه وقدرته محيطة به ﴿وليس له من دونه﴾ أي : الله تعالى الذي لا مجير عليه ﴿أولياء﴾ يفعلون لأجله ما يفعل القريب مع قريبه من الذب عنه والاستشفاع له والافتداء ﴿أولئك﴾ البعيدون من كل خير ﴿في ضلال مبين﴾ ظاهر في نفسه أنه ضلال مظهر لكل أحد قبح إحاطته بهم.
تنبيه : ههنّا همزتان مضمومتان من كلمتين ولا نظير لهما في القرآن العظيم قرأ قالون والبزي بتسهيل الأولى كالواو مع المدّ والقصر وسهل الثانية ورش وقنبل بعد تحقيق الأولى ولهما أيضاً إبدال الثانية ألفاً وأسقط الأولى أبو عمرو مع المدّ والقصر والباقون بتحقيقهما وهم على مراتبهم في المدّ.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٧٣٢
﴿أولم يروا﴾ أي : يعلموا علماً هو في الوضوح كالرؤية ﴿أن الله﴾ ودل على ما دلّ عليه هذا
٧٣٣
الاسم الأعظم بقوله تعالى :﴿الذي خلق السموات﴾ على ما احتوت عليه بما يعجز الوصف من العبر ﴿والأرض﴾ على ما اشتملت عليه من الآيات المدركة بالعيان والخبر ﴿ولم يعي﴾ أي : ولم يتعب ولم يعجز ﴿بخلقهنّ﴾ أي : بسبب من الأسباب. فإنه لو حصل له شيء من ذلك أدّى إلى نقصان فيهما، أو في إحداهما. وأكد الإنكار المتضمن للنفي بزيادة الجارّ في خبر إن فقال :﴿بقادر﴾ أي : قدرة عظيمة ﴿على أن يحيي﴾ أي : على سبيل التجديد مستمرّاً ﴿الموتى﴾ والأمر فيهم لكونه إعادة وكونه جزءاً يسيراً مما ذكر، اختراعه أصغر شأناً وأسهل صنعاً وأجاب بقوله تعالى ﴿بلى﴾ لأنّ هذا الاستفهام الإنكاري في معنى النفي.
أي : قد علموا أنه قادر على ذلك علماً هو في إيقانه كالبصر لأنهم يعلمون أنه المخترع لذلك، وأن الإعادة أهون من الابتداء في مجاري عاداتهم، ولكنهم عن ذلك غافلون لأنهم عنه معرضون. وقوله تعالى :﴿إنه على كل شيء قدير﴾ تقرير للقدرة على وجه عام يكون كالبرهان على المقصود. كأنه لما صدر السورة بتحقيق المبدأ أراد ختمها بإثبات المعاد. ولما أثبت البعث بما أقام من الدلائل، ذكر بعض ما يحصل في يومه من الأهوال. بقوله تعالى :
﴿ويوم﴾ أي : واذكر يوم ﴿يعرض﴾ أي : بأيسر أمر من أوامرنا ﴿الذين كفروا﴾ أي : ستروا بغفلتهم وتماديهم الأدلة الظاهرة ﴿على النار﴾ عرض الجند على الملك، فيسمعون من تغيظها وزفيرها ما لو قدّر أن أحداً يموت في ذلك اليوم لماتوا من معاينته، وهائل رؤيته ثم يقال لهم ﴿أليس هذا﴾ أي : الأمر الذي كنتم به توعدون، ولرسلنا في إخبارهم به تكذبون ﴿بالحق﴾ أي : الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع، أم هو خيال وسحر ﴿قالوا﴾ أي : مصدّقين حيث لا ينفعهم التصديق ﴿بلى﴾ وما كفاهم البدار إلى تكذيب أنفسهم حتى أقسموا عليه بقولهم :﴿وربنا﴾ أي إنه لحق هو أثبت الأشياء، وليس فيه شيء مما يقارب السحر.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٧٣٣
تنبيه : المقصود من هذا الاستفهام التحكم والتوبيخ على استهزائهم بوعد الله تعالى ووعيده. ﴿قال فذوقوا العذاب﴾ أي : باشروه مباشرة الذائق باللسان. ومعنى الأمر ؛ الإهانة بهم والتوبيخ لهم ثم صرّح بالسبب فقال تعالى :﴿بما كنتم﴾ أي : خلقاً مستمرّاً ﴿تكفرون﴾ في دار العمل.
ولما قرّر تعالى المطالب الثلاثة ؛ وهي التوحيد، والنبوّة، والمعاد. وأجاب عن الشبهات أردفه بما يجري مجرى الوعظ والنصيحة لنبيه محمد ﷺ وذلك لأنّ الكفار كانوا يؤذونه ويوحشون صدره. فقال تعالى :
﴿فاصبر﴾ أي : على مشاق ما ترى في تبليغ الرسالة، وعلى أذى قومك قال القشيري : الصبر، هو الوثوق بحكم الله تعالى والثبات من غير بث ولا استكراه ﴿كما صبر أولو العزم﴾ أي : الثبات والجدّ في الأمور. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : أولو الحزم وقوله تعالى :﴿من الرسل﴾ يجوز فيه أن تكون ﴿من﴾ تبعيضية وعلى هذا فالرسل : أولو عزم وغير أولي عزم ويجوز أن تكون للبيان، وعليه جرى الجلال المحلي فكلهم على هذا أولو عزم.
قال ابن زيد كل الرسل كانوا أولي عزم وحزم ورأي وكمال عقل، وإنما أدخلت من للتجنيس لا للتبعيض كما يقال : اشتريت أكسية من الخز وأردية من البز. وقال بعضهم : الأنبياء كلهم أولو العزم إلا يونس لعلة كانت فيه. ألا ترى أنه قيل لنبينا ﷺ ﴿ولا تكن كصحاب الحوت﴾ (القلم : ٤٨)
وقال قوم : هم نجباء الرسل، وهم المذكورون في سورة الأنعام وهم ثمانية عشر لقوله تعالى بعد ذكرهم ﴿أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده﴾ (الأنعام : ٩٠)
وقال الكلبيّ هم الذين أمروا بالجهاد، وأظهروا المكاشفة مع أعداء الله تعالى وقيل : هم ستة ؛ نوح وهود وصالح ولوط. وشعيب وموسى.
٧٣٤
وهم المذكورون على النسق في سورة الأعراف والشعراء وقال مقاتل : هم ستة، نوح صبر على أذى قومه، وإبراهيم صبر على النار، وإسحاق صبر على الذبح، ويعقوب صبر على فقد ولده، وذهاب بصره ويوسف صبر في الجب والسجن، وأيوب صبر على الضرّ. وقال ابن عباس وقتادة هم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى، أصحاب الشرائع فهم مع محمد ﷺ خمسة ونظمهم بعضهم في بيت فقال :
*محمد إبراهيم موسى كليمه ** فعيسى فنوح هم أولو العزم فاعلم*
قال البغوي : ذكرهم الله تعالى على التخصيص في قوله تعالى ﴿وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم﴾ (الأحزاب : ٧)
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٧٣٣
وفي قوله تعالى :﴿شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً﴾ (الشورى : ١٣)
الآية.
وعن مسروق قال "قالت عائشة رضي الله عنها : قال لي رسول الله ﷺ يا عائشة إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد يا عائشة إن الله لم يرض من أولي العزم إلا الصبر على مكروهها، والصبر عن محبوبها. ولم يرض إلا أن كلفني ما كلفهم قال تعالى ﴿فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل﴾ وإني والله لا بدّ لي من طاعته والله لأصبرنّ كما صبروا ولأجهدنّ، ولا قوّة إلا بالله، ولما أمره الله تعالى بالصبر الذي هو من أعلى الفضائل، نهاه عن العجلة التي هي من أمهات الرذائل. فقال عز من قائل :
﴿ولا تستعجل لهم﴾ أي : لا تطلب العجلة وتوجدها بأن تفعل شيئاً مما يسوءهم في غير حينه الأليق به. فإنه نازل بهم في وقته لا محالة.
قيل : إنّ النبيّ ﷺ ضجر من قومه، وأحب أن ينزل الله تعالى العذاب بمن أبى من قومه، فأمر بالصبر وترك الاستعجال ثم أخبر أنّ ذلك العذاب إذا نزل بهم يستقصرون مدّة لبثهم في الدنيا، حتى يحسبونها ساعة من نهار فقال تعالى :﴿كأنهم يوم يرون ما يوعدون﴾ أي : من العذاب بهم في الآخرة ﴿لم يلبثوا﴾ أي : في الدنيا ﴿إلا ساعة من نهار﴾ استقصروا مدّة لبثهم في الدنيا والبرزخ كأنه ساعة من نهار، أو كأنه لم يكن لهول ما عاينوا، ولأنّ ما مضى وإن كان طويلاً صار كأنه لم يكن قال الشاعر :
*كأنّ شيئاً لم يكن إذا مضى ** كأنّ شيئاً لم يكن إذا أتى*
تنبيه : تم الكلام ههنا وقوله تعالى ﴿بلاغ﴾ خبر مبتدأ محذوف قدره بعضهم : تلك الساعة بلاغ لدلالة قوله تعالى ﴿إلا ساعة من نهار﴾ وبعضهم : هذا أي القرآن بلاغ أي تبليغ من الله تعالى إليكم وجرى عليه الجلال المحلي. ﴿فهل﴾ أي : لا ﴿يهلك﴾ أي : بالعذاب إذا نزل ﴿إلا القوم﴾ أي : الذين هم أهل القيام بما يحاولونه من اللدد، ﴿الفاسقون﴾ أي : العريقون في إدامة الخروج عن الانقياد والطاعة، وهم الكافرون. قال الزجاج : تأويله لا يهلك مع فضل الله ورحمته إلا القوم الفاسقون ولهذا قال قوم : ما في الرجاء لرحمة الله أقوى من هذه الآية. وما قاله البيضاويّ تبعاً للزمخشري : من أنه ﷺ قال من قرأ سورة الأحقاف كتب الله له عشر حسنات بعدد كل رملة في الدنيا. حديث موضوع.
٧٣٥
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٧٣٣


الصفحة التالية
Icon