فإن قيل : كيف قال وأكثرهم كاذبون بعدما حكم عليهم أنّ كل واحد منهم أفاك ؟
أجيب : بأنّ الأفاكين هم الذين يكثرون الكذب لأنهم الذين لا ينطقون إلا بالكذب فأراد أنّ هؤلاء الأفاكين قل من يصدق منهم فيما يحكي عن الجنيّ وأكثرهم مفتر عليه، ولما قال الكفار لم لا يجوز أن يقال الشياطين تنزل بالقرآن على محمد كما أنهم ينزلون بالكهانة على الكهنة وبالشعر على الشعراء، ثم إنه تعالى فرق بين محمد عليه الصلاة والسلام وبين الكهنة، وذكر ما يدلّ على الفرق بينه وبين الشعراء بقوله تعالى :
﴿والشعراء يتبعهم الغاوون﴾ أي : الضالون المائلون عن السنن الأقوم
٨١
إلى كل فساد يجرّ إلى الهلاك وأتباع محمد ﷺ ليسوا كذلك بل هم الساجدون الباكون الزاهدون رضي الله تعالى عنهم، وقرأ نافع بسكون التاء الفوقية وفتح الباء الموحدة، والباقون بتشديد الفوقية وكسر الموحدة، ولما قرّر حال أتباعهم، علم منه أنهم هم أغوى منهم لتهّتكهم في شهوة اللقلقة باللسان حتى حسن لهم الزور والبهتان، دلّ على ذلك بقوله تعالى :
﴿ألم تر﴾ أي : تعلم ﴿أنهم﴾ أي : الشعراء ومثل حالهم بقوله تعالى :﴿في كل واد﴾ من أودية القول من المدح والهجو والتشبب والرثاء والمجون وغير ذلك ﴿يهيمون﴾ أي : يسيرون سير البهائم حائرين وعن طريق الحق حائدين كيفما جرّهم القول أنجرّوا من القدح في الأنساب والتشبب بالحرم والهجو ومدح من لا يستحق المدح ونحو ذلك، ولذلك قال تعالى :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٧٧
وأنهم يقولون ما لا يفعلون﴾
أي : لأنهم لا يقصدونه وإنما ألجأهم إليه الفنّ الذي سلكوه فأكثر أقوالهم لا حقائق لها، وقيل : إنهم يمدحون الجود والكرم ويحثون عليه ولا يفعلونه ويذمّون البخل ويصرّون عليه ويهجون الناس بأدنى شيء صدر منهم.
تنبيه : قال المفسرون : أراد شعراء الكفار كانوا يهجون رسول الله ﷺ وذكر مقاتل أسماءهم فقال : منهم عبد الله بن الزبعري السهميّ وهبيرة بن أبي وهب المخزوميّ وشافع بن عبد مناف وأبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحيّ وأمية بن أبي الصلت الثقفي تكلموا بالكذب والباطل وقالوا : نحن نقول كما قال محمد وقالوا الشعر واجتمع إليهم غواة قومهم يسمعون أشعارهم حين هجوا النبيّ ﷺ وأصحابه، ويروون عنهم قولهم : فذلك قوله تعالى :﴿يتبعهم الغاوون﴾ وهم الرواة الذين يروون هجاء المسلمين، وقال قتادة : هم الشياطين، ثم.
إنه تعالى لما وصف شعراء الكفار بهذه الأوصاف، استثنى شعراء المسلمين الذين كانوا يجتنبون شعر الجاهلية ويهجون الكفار وينافحون عن النبيّ ﷺ وأصحابه، منهم : حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك، فقال تعالى :
﴿إلا الذين آمنوا﴾ أي : بالله ورسوله ﴿وعملوا﴾ أي : تصديقاً لإيمانهم ﴿الصالحات﴾ أي : التي شرعها الله تعالى ورسوله ﴿وذكروا الله﴾ مستحضرين ما له من الكمال ﴿كثيراً﴾ أي : لم يشغلهم الشعر عن الذكر، روي أنّ كعب بن مالك قال للنبيّ ﷺ "إنّ الله قد أنزل في الشعر ما أنزل، فقال النبيّ ﷺ إنّ المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه والذي نفسي بيده لكأنما ترمونهم به نضح النبل" وعن أنس رضي الله عنه أنّ النبيّ ﷺ "دخل مكة في عمرة القضاء وابن رواحة يمشي بين يديه وهو يقول :
*خلوا بني الكفار عن سبيله ** اليوم نضر بكم على تنزيله*
*ضرباً يزيل الهمام عن مقيله ** ويذهب الخليل عن خليله*
فقال له عمر : يا ابن رواحة بين يدي رسول الله ﷺ وفي حرم الله تقول شعراً فقال النبيّ ﷺ خل عنه يا عمر فهي أسرع فيهم من نضح النبل" وعن البراء أنّ النبيّ ﷺ قال يوم قريظة لحسان :"أهج المشركين فإنّ جبريل معك" وعن عائشة رضي الله عنها قالت أنّ النبيّ ﷺ قال :
٨٢
"اهجوا قريشاً فإنه أشدّ عليهم من رشق النبل فأرسل إلى ابن رواحة فقال اهجهم فلم يرض فأرسل إلى كعب بن مالك ثم أرسل إلى حسان بن ثابت فقال حسان قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد ثم أدلع لسانه فجعل يحرّكه فقال والذي بعثك بالحق لأفرينهم بلساني فري الأديم فقال النبيّ ﷺ لا تعجل فإنّ أبا بكر أعلم قريش بأنسابها وإنّ لي فيهم نسباً حتى يخلص لك نسبي، فأتاه حسان ثم رجع فقال يا رسول الله لقد أخلص لي نسبك والذي بعثك بالحق لأسلنك منهم كما يسلّ الشعر من العجين، قالت عائشة فسمعت رسول الله ﷺ يقول لحسان : إنّ روح القدس لا يزال يؤدّيك ما نافحت عن الله ورسوله قالت وسمعت رسول الله ﷺ يقول :"هجاهم حسان فشفى وأشفى" قال حسان :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٧٧
هجوت محمداً فأجبت عنه ** وعند الله في ذاك الجزاء*
*هجوت محمداً برّاً حنيفاً ** رسول الله شيمته الوفاء*
*فإنّ أبي ووالدتي وعرضي ** لعرض محمد منكم وفاء*
*فمن يهجو رسول الله منكم ** ويمدحه وينصره سواء*
*وجبريل رسول الله فينا ** وروح القدس ليس له كفاء*
وورد في مدح الشعر عن أبيّ بن كعب أنّ رسول الله ﷺ قال : إنّ من الشعر حكمة" وعن ابن عباس قال : جاء أعرابيّ إلى النبيّ ﷺ يوماً فقال : هل معك من شعر أمية ابن أبي الصلت شيء ؟
قال : نعم قال هيه، فأنشده بيتاً فقال هيه حتى أنشده مائة بيت" وعن جابر بن سمرة قال :"جالست رسول الله ﷺ أكثر من مئة مرة فكان أصحابه يتناشدون الشعر ويتذاكرون شيئاً من أمر الجاهلية فربما تبسم معهم" وعن عائشة : الشعر كلام فمنه حسن ومنه قبيح فخذ الحسن ودع القبيح، وعن : الشعبيّ كان أبو بكر يقول الشعر وكان عمر يقول الشعر وكان عليّ أشعر الثلاثة، وعن ابن عباس : أنه كان ينشد الشعر في المسجد ويستنشده فروي أنه دعا عمر بن أبي ربيعة المخزوميّ واستنشده القصيدة التي أوّلها :
*أمن آل نُعْمٍ أنت غاد مبكر ** غداة غد أم رائح فمهجر*
فأنشد ابن ربيعة القصيدة إلى آخرها وهي قريبة من سبعين بيتاً، ثم إنّ ابن عباس أعاد القصيدة جميعاً وكان حفظها بمرّة واحدة. ثم بين سبحانه وتعالى ما حمل المؤمنين على الشعر وهو انتصارهم من المشركين بقوله تعالى :﴿وانتصروا﴾ أي : بهجوهم الكفار ﴿من بعدما ظلموا﴾ بهجو الكفار لهم لأنهم بدؤا
٨٣
بالهجاء، ثم أوعد شعراء المشركين وغيرهم من الكفار بقوله تعالى :﴿وسيعلم الذين ظلموا﴾ بالشرك وهجو رسول الله ﷺ ﴿أي : منقلب﴾ أي : مرجع ﴿ينقلبون﴾ أي : يرجعون بعد الموت، قال ابن عباس : إلى جهنم والسعير، وفي هذا تهديد شديد لما في سيعلم من الوعيد البليغ، ﴿وفي الذين ظلموا﴾ من الإطلاق والتعميم وفي ﴿أيّ منقلب ينقلبون﴾ من الإبهام والتهويل، وقد تلا أبو بكر لعمر رضي الله عنهما حين عهد إليه هذه الآية.
اللهمّ اجعلنا ممن جعل هذه الآية بين عينيه فلم يغفل عنها، وروى الثعلبي في تفسيره عن ابن عباس : أنّ النبيّ ﷺ قال :"أعطيت السورة التي تذكر فيها البقرة من الذكر الأوّل وأعطيت طه والطواسين من ألواح موسى وأعطيت فواتح القرآن وخواتيم السورة التي تذكر فيها البقرة من تحت العرش وأعطيت المفصل نافلة" وعن أنس أنّ رسول الله ﷺ قال :"إنّ الله أعطاني السبع مكان التوراة وأعطاني الطواسين مكان الزبور وفضلني بالحواميم والمفصل ما قرأهنّ نبيّ قبلي"، وما رواه البيضاويّ تبعاً للزمخشريّ من أنّ النبيّ ﷺ قال :"من قرأ سورة الشعراء كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بنوح وكذب به وهود وشعيب وصالح وإبراهيم وبعدد من كذب بعيسى وصدّق بمحمد ﷺ حديث موضوع.
٨٤
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٧٧


الصفحة التالية
Icon