﴿إلا من ظلم﴾ فيه وجهان : أحدهما : أنه استثناء منقطع، لأنّ المرسلين معصومون من المعاصي وهذا هو الصحيح، والمعنى لكن من ظلم من سائر الناس فإنه يخاف إلا من تاب كما قال تعالى :﴿ثم بدّل﴾ أي : بتوبته ﴿حسناً بعد سوء﴾ وهو الظلم الذي كان عمله أي : جعل الحسن بدل السوء كالسحرة الذين آمنوا بعد ذلك بموسى عليه السلام ﴿فإني﴾ أرحمه بسبب أني ﴿غفور﴾ أي : من شأني أن أمحو الذنوب محواً يزيل جميع آثارها ﴿رحيم﴾ أي : أعامله معاملة الراحم البليغ الرحمة، والثاني : أنه استثناء متصل.
وللمفسرين فيه عبارات : قال الحسن : إنّ موسى ظلم بقتل القبطي ثم تاب فقال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي، وقال غيره : إنّ ذلك محمول على ما يصدر من الأنبياء من ترك الأفضل، وقال بعض النحويين : إلا ههنا بمعنى ولا، أي : لا يخاف لديّ المرسلون ولا المذنبون التائبون كقوله تعالى :﴿لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا﴾ (البقرة : ١٥٠)
أي : ولا الذين ظلموا ثم أراه الله تعالى بعد هذه الآية آية أخرى ذكرها بقوله تعالى :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٨٥
وأدخل يدك في جيبك﴾ أي : فتحة ثوبك وهو ما قطع منه ليحيط بعنقك، وكان عليه مدرعة صوف لا كم لها وقيل : الجيب القميص لأنه يجاب أي : يقطع ﴿تخرج بيضاء﴾ أي : بياضاً عظيماً نيراً جداً له شعاع كشعاع الشمس، وكانت الآية الأولى مما في يده بقلب جوهرها إلى جوهر شيء آخر حيواني، وهذه في يده نفسها بقلب عرضها التي كانت عليه إلى عرض آخر نوراني، ثم نفى عنها أن يكون ذلك بسبب آفة بقوله تعالى :﴿من غير سوء﴾ أي : برص ولا غيره من الآفات، وقوله تعالى ﴿في تسع آيات﴾ كلام مستأنف، وحرف الجرّ فيه متعلق بمحذوف، والمعنى : اذهب في تسع آيات ﴿إلى فرعون وقومه﴾ كقول القائل :
*فقلت إلى الطعام فقال منهم ** فريق يحسد الأنس الطعاما*
ويجوز أن يكون بمعنى وألق عصاك وأدخل يدك في تسع آيات وعدادهنّ.
ولقائل أن يقول كانت الآيات إحدى عشرة آية : ثنتان منها العصا واليد، والتسع الفلق والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمس والجدب في بواديهم والنقصان في مزارعهم، وقيل : في بمعنى من أي : من تسع آيات فتكون العصا واليد من التسع، ثم علل إرساله إليهم
٨٩
بالخوارق بقوله تعالى :﴿إنهم كانوا قوماً فاسقين﴾ أي : خارجين عن طاعتنا.
﴿فلما جاءتهم آياتنا﴾ أي : على يد موسى عليه السلام ﴿مبصرة﴾ أي : بينة واضحة هادية إلى الطريق الأقوم ﴿قالوا هذا سحر﴾ أي : خيال لا حقيقة له ﴿مبين﴾ أي : واضح في أنه خيال.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٨٥
أي : أنكروا كونها آيات موجبات لصدقه مع علمهم بإبطالهم لأنّ الجحود الإنكار مع العلم ﴿واستيقنتها أنفسهم﴾ أي : علموا أنها من عند الله تعالى وتخلل علمها صميم قلوبهم، فكانت ألسنتهم مخالفة لما في قلوبهم ولذلك أسند الاستيقان إلى النفس، ثم علل جحدهم ووصفهم لها بخلاف وصفها بقوله تعالى :﴿ظلماً وعلواً﴾ أي : شركاء وتكبراً عن أن يؤمنوا بما جاء به موسى ﴿فانظر﴾ يا أشرف الخلق ﴿كيف كان عاقبة المفسدين﴾ وهو الإغراق في الدنيا بأيسر سعي وأيسر أمر، فلم يبق منهم عين تطرف ولم يرجع منهم مخبر على كثرتهم وعظمتهم وقوتهم، والإحراق في الآخرة بالنار المؤبدة. القصة الثانية قصة داود وسليمان عليهما السلام المذكورة في قوله تعالى.
﴿ولقد آتينا﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿داود وسليمان﴾ ابنه وهما من أتباع موسى عليهم السلام وبعده بأزمان متطاولة ﴿علماً﴾ أي : جزأ من العلم عظيماً من منطق الطير والدواب وتسبيح الجبال وغير ذلك لم نؤته لأحد من قبلهما ولما كان التقدير فعملا بمقتضاه، عطف عليه قوله :﴿وقالا﴾ شكراً عليه ودلالة على شرف العلم وتنبيهاً لأهله على التواضع ﴿الحمد﴾ أي : الإحاطة بجميع أوصاف الكمال ﴿لله﴾ أي : الذي لا كفء له ﴿الذي فضلنا﴾ أي : بما آتانا من النبوّة والكتاب وتسخير الشياطين والجنّ والإنس وغير ذلك ﴿على كثير من عباده المؤمنين﴾ أي : ممن لم يؤت علماً أو مثل علمهما، وفي ذلك تحريض للعالم أن يحمد الله تعالى على ما آتاه من فضله ويعتقد أنه وإن فضل على كثير فقد فضل عليه كثير، فلا يتكبر ولا يفتخر ويشكر الله تعالى، وينفع به المسلمين كما نفعه الله تعالى به، ثم إنه تعالى أشار إلى فضل سليمان بأنه جمع إلى ما آتاه ما كان منح به أباه بقوله تعالى :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٩٠