فإن قيل : كيف استعظم الهدهد عرشها مع ما كان يرى من ملك سليمان ؟
وأيضاً كيف سوى بين عرش بلقيس وعرش الرحمن في الوصف بالعظم ؟
أجيب عن الأوّل : بأنه يجوز أن يستصغر حالها إلى حال سليمان واستعظم لها ذلك العرش، ويجوز أن لا يكون لسليمان مثله وإن عظمت مملكته في كل شيء كما يكون لبعض أمراء الأطراف شيء يكون في العظم أبلغ مما لغيره من أبناء جنسه من الملوك، ووصف عرش الرحمن بالعظم تعظيم له بالنسبة إلى سائر ما خلق من السموات والأرض.
فإن قيل : كيف خفي على سليمان تلك المملكة العظيمة مع أنّ الإنس والجنّ كانوا في طاعته فإنه عليه السلام كان ملك الدنيا كلها مع أنه لم يكن بين سليمان وبين بلدة بلقيس حال طيران الهدهد إلا مسيرة ثلاثة أيام ؟
أجيب : بأنّ الله تعالى أخفى عنه ذلك لمصلحة رآها كماأخفى مكان يوسف على يعقوب، ولما كان الهدهد في خدمة أقرب أهل ذلك الزمان إلى الله تعالى فحصل له من النورانية ما هاله، قال مستأنفاً.
﴿وجدتها وقومها﴾ أي : كلهم على ضلال كبير وذلك أنهم ﴿يسجدون للشمس﴾ مبتدئين ذلك ﴿من دون الله﴾ أي : من أدنى رتبة للملك الأعظم الذي لا مثل له ﴿وزين لهم الشيطان أعمالهم﴾ أي : هذه القبيحة حتى صاروا يظنونها حسنة، ثم تسبب عن ذلك أنه أعماهم عن طريق الحق فلهذا قال ﴿فصدّهم عن السبيل﴾ أي : الذي لا سبيل إلى الله غيره، وهو الذي بعث به أنبياءه ورسله عليهم الصلاة والسلام، ثم تسبب عن ذلك ضلالهم فلهذا قال ﴿فهم﴾ أي : بحيث ﴿لا يهتدون﴾ أي : لا يوجد لهم هدى بل هم في ضلال صرف وعمى محض.
﴿ألا يسجدوا لله﴾ أي : أن يسجدوا له، فزيدت لا وأدغم فيها نون أن، كما في قوله تعالى :﴿لئلا يعلم أهل الكتاب﴾ (الحديد : ٢٩)
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٩٨
والجملة في موضع مفعول يهتدون بإسقاط إلى، هذا إذا قرئ بالتشديد وهي قراءة غير الكسائي، وأمّا الكسائي : فقرأ بتخفيف ألا فألا فيها تنبيه واستفتاح وما
٩٩
بعدها حرف نداء ومناداه محذوف كما حذفه من قال :
*ألايا اسلمى يا دار ميّ عليّ البلى ** ولا زال منهلاً بجرعاتك القطر*
ويقف الكسائي على ألا، وعلى يا، وعلى اسجدوا، وإذا ابتدأ اسجدوا ابتدأ بالضم، ثم وصف الله تعالى بما يوجب اختصاصه باستحقاق السجود من الاتصاف بكمال القدرة والعلم حثاً على السجود له وردّاً على من يسجد لغيره سبحانه وتعالى بقوله :﴿الذي يخرج الخبء﴾ وهو مصدر بمعنى المخبوء من المطر والنبات وغيرهما وخصه بقوله :﴿في السموات والأرض﴾ لأنّ ذلك منتهى مشاهدتنا فننظر ما يكون فيهما بعد أن لم يكن من سحاب ومطر ونبات وتوابع ذلك من الرعد والبرق وما يشرق من الكواكب ويغرب إلى غير ذلك من الرياح والحرّ والبرد وما لا يحصيه إلا الله تعالى ﴿ويعلم ما تخفون﴾ في قلوبهم ﴿وما تعلنون﴾ بألسنتهم، وقرأ الكسائي وحفص بالتاء الفوقية فيهما، والباقون بالتحتية، فالخطاب ظاهر على قراءة الكسائي لأنّ ما قبله أمرهم بالسجود وخاطبهم به، والغيبة على قراءة الباقين غير ظاهرة لتقدّم الضمائر الغائبة في قوله ﴿أعمالهم ﴾ ﴿فصدهم﴾ و﴿فهم﴾ وأمّا قراءة حفص فتأويلها أنه خرج إلى خطاب الحاضرين بعد أن أتم قصة أهل سبأ، ويجوز أن تكون إلتفاتاً على أنه نزل الغائب منزلة الحاضر فخطابه ملتفتاً إليه وقوله :
﴿الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم﴾ أي : الذي هو أوّل الأجرام وأعظمها والمحيط بجملتها، يحتمل أن يكون من كلام الهدهد استدراكاً لما وصف عرش بلقيس بالعظم، وأن يكون من كلام الله تعالى ردّاً عليه في وصفه عرشها بالعظم فبين العظمتين بون عظيم، فإن قيل : من أين للهدهد التهدي إلى معرفة الله ووجوب السجود له وإنكار سجودهم للشمس وإضافته إلى الشيطان وتزيينه ؟
أجيب : بأنه لا يبعد أن يلهمه الله تعالى ذلك كما ألهمه وغيره من الطيور وسائر الحيوان المعارف اللطيفة التي لا تكاد العقلاء الرجاح العقول يهتدون لها، خصوصاً في زمن نبي سخرت له الطيور وعلم منطقها وجعل ذلك معجزة له، وهذه آية سجدة واختلف في محلها، هل هو هذه الآية أو عند قوله قبلها وما يعلنون ؟
الجمهور على الأوّل، ولما فرغ الهدهد من كلامه.
﴿قال﴾ له سليمان ﴿سننظر﴾ أي : نختبر ما قلته ﴿أصدقت﴾ فيه فنعذرك ﴿أم كنت من الكاذبين﴾ أي : معروفاً بالانخراط في سلكهم فإنه لا يجترئ على الكذب عندي إلا من كان غريقاً في الكذب فهو أبلغ من أم كذبت، وأيضاً لمحافظة الفواصل، ثم شرع فيما يختبره به فكتب له كتاباً على الفور في غاية الوجازة قصداً للإسراع في إزالة المنكر على تقدير صدق الهدهد بحسب الاستطاعة، ودل على إسراعه في كتابته بقوله جواباً له.
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٩٨
اذهب بكتابي هذا﴾ فكأنه كان مهيأ عنده فدفعه إليه وأمره بالإسراع، فطار كأنه البرق ولهذا أشار بالفاء في قوله :{فألقه
١٠٠