﴿قالوا﴾ مائلين إلى الحرب ﴿نحن أولو قوّة﴾ أي : بالمال والرجال ﴿وأولو﴾ أي : أصحاب ﴿بأس﴾ عزم في الحرب ﴿شديد والأمر﴾ أي : في كل من المصادمة والمسالمة راجع وموكول ﴿إليك فانظري﴾ أي : بسبب أنه لا نزاع معك ﴿ماذا تأمرين﴾ فإنا نطيعك ونتبع أمرك، ولما علمت أن من سخر له الطير على هذا الوجه لا يعجزه شيء يريده.
﴿قالت﴾ جواباً لما أحست في جوابهم من ميلهم إلى الحرب والحرب سجال لا يدري عاقبتها ﴿إن الملوك﴾ أي : مطلقاً فكيف بهذا النافذ الأمر، العظيم القدر ﴿إذا دخلوا﴾ عنوة بالقهر ﴿قرية أفسدوها﴾ أي : بالنهب والتخريب ﴿وجعلوا أعزة أهلها أذلة﴾ أي : أهانوا أشرافها وكبراءها كي يستقيم لهم الأمر، ثم أكدت هذا المعنى بقولها ﴿وكذلك﴾ أي : ومثل هذا الفعل العظيم الشأن ﴿يفعلون﴾ أي : هو خلق لهم مستمرّ في جميعهم فكيف بمن تطيعه الوحوش والطيور وغيرهما.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٩٨
تنبيه : هذه الجملة من كلامها وهو كما قال ابن عادل الظاهر، ولهذا جبلت عليه فتكون منصوبة بالقول، ويحتمل أن تكون من كلام الله تعالى تصديقاً لها فهي استئنافية لا محل لها من الإعراب، وهي معترضة بين قولها. ولما بينت ما في المصادمة من الخطر أتبعته بما عزمت عليه من المسالمة بقولها.
﴿وإني مرسلة إليهم﴾ أي : إلى سليمان وقومه ﴿بهدية﴾ وهي العطية على طريق الملاطفة، وذلك أن بلقيس كانت امرأة كيسة قد سيست وساست فقالت للملأ من قومها إني مرسلة إلى سليمان وقومه بهدية
١٠٢
أصانعه بها عن ملكي فاختبره بها أملك هو أم نبي ؟
فإن يكن ملكاً قبل الهدية وانصرف، وإن يكن نبياً لم يقبل الهدية ولم يرضها منا إلا أن نتبعه على دينه، فذلك قولها ﴿فناظرة بم﴾ أي : أيّ شيء ﴿يرجع المرسلون﴾ فأهدت إليه وصفاً ووصائف، قال ابن عباس : ألبستهم لباساً واحداً كي لا يعرف ذكراً من أنثى، وقال مجاهد ألبست الجواري لباس الغلمان وألبست الغلمان لباس الجواري، واختلف في عددهم : فقال ابن عباس : مائة وصيف ومائة وصيفة، وقال مجاهد ومقاتل : مائة غلام ومائتا جارية، وقال قتادة : أرسلت إليه بلبنات من ذهب في حرير وديباج، وقال ثابت البناني : أهدت إليه صفائح الذهب في أوعية الديباج، وقيل : كانت أربع لبنات من ذهب، وقال وهب وغيره : عمدت بلقيس إلى خمسمائة غلام وخمسمائة جارية فألبست الجواري لباس الغلمان الأقبية والمناطق وألبست الغلمان لباس الجواري وجعلت في سواعدهم أساور من ذهب وفي أعناقهم أطواقاً من ذهب وفي آذانهم أقراطاً وشنوفاً مرصعات بأنواع الجواهر وغواشيها من الديباج الملونة وبعثت إليه خمسمائة لبنة من ذهب وخمسمائة من فضة وتاجاً مكللاً بالدر والياقوت المرتفع وأرسلت المسك والعنبر وعمدت إلى حقة فجعلت فيها درة ثمينة غير مثقوبة، وجذعة لعلها مثقوبة معوّجة الثقب ودعت رجلاً من أشراف قومها يقال له المنذر بن عمرو وضمت إليه رجالاً من قومها أصحاب رأي وعقل، وكتبت معهم كتاباً بنسخة الهدية.
وقالت : إن كنت نبياً فميز بين الوصف والوصائف، وأخبر بما في الحقة قبل أن تفتحها، واثقب الدرة ثقباً مستوياً، وأدخل خيطاً في الخرزة المثقوبة من غير علاج إنس ولا جنّ، وأمرت بلقيس الغلمان : إذا كلمكم سليمان فكلموه بكلام تأنيث وتخنيث يشبه كلام النساء، وأمرت الجواري أن يكلمنه بكلام فيه غلظة يشبه كلام الرجال، ثم قالت للرجل انظر إلى الرجل إذا دخلت عليه فإن نظر إليك نظر غضب فاعلم أنه ملك فلا يهولنك منظره فأنا أعز منه، وإن رأيت الرجل بشاشاً لطيفاً فاعلم أنه نبيّ مرسل، فتفهم قوله ورد الجواب.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٩٨
فانطلق الرسول بالهدايا وأقبل الهدهد مسرعاً إلى سليمان فأخبره الخبر كله فأمر سليمان عليه السلام الجنّ أن يضربوا لبنات الذهب ولبنات الفضة ففعلوا، ثم أمرهم أن يبسطوا من موضعه الذي هو فيه إلى تسعة فراسخ ميداناً واحداً بلبنات الذهب والفضة وأن يجعلوا حول الميادين حائطاً شرفها من الذهب والفضة ففعلوا، ثم قال أيّ الدواب أحسن مما رأيتم في البر والبحر قالوا يا نبيّ الله إنا رأينا دوابّ في مجر كذا وكذا منقطة مختلفة ألوانها لها أجنحة وأعراف ونواص، قال عليّ بها الساعة، فأتوابها فقال شدّوها عن يمين الميدان وعن يساره على لبنات الذهب والفضة وألقوا لها علوفتها فيها، ثم قال للجنّ عليّ بأولادكم فاجتمع خلق كثير فأقامهم عن يمين الميدان ويساره، ثم قعد سليمان في مجلسه على سريره ووضع له أربعة آلاف كرسي على يمينه ومثلها على يساره وأمر الشياطين أن يصطفوا صفوفاً فراسخ وأمر الإنس فاصطفوا صفوفاً فراسخ وأمر الوحوش والسباع والهوام والطير فاصطفوا فراسخ عن يمينه ويساره.