﴿فلما رآه﴾ أي : رأى سليمان العرش ﴿مستقرّاً عنده﴾ أي : حاصلاً بين يديه ﴿قال﴾ شاكراً
١٠٦
لربه لما آتاه الله تعالى من هذه الخوارق ﴿هذا﴾ أي : الإتيان المحقق ﴿من فضل ربي﴾ أي : المحسن إليّ لا بعمل أستحق به شيئاً فإنه أحسن إليّ بإخراجي من العدم ونظر إليّ بتوفيقي للعمل فكل عمل نعمة يستوجب عليّ بها الشكر، ولذلك قال ﴿ليبلوني﴾ أي : ليختبرني ﴿أأشكر﴾ فاعترف بكونه فضلاً ﴿أم أكفر﴾ بظني أني أوتيته باستحقاق.
تنبيه : ههنا همزتان مفتوحتان فنافع يسهل الهمزة الثانية، وابن كثير وأبو عمرو وهشام بخلاف عنه، وأدخل بينهما ألفاً قالون وأبو عمرو وهشام، ولم يدخل ورش وابن كثير، ولورش أيضاً إبدالها ألفا، والباقون بالتحقيق وعدم الإدخال، ثم زاد في حث نفسه على الشكر بقوله ﴿ومن شكر﴾ أي : أوقع الشكر لربه ﴿فإنما يشكر لنفسه﴾ فإن نفعه لها وهو أن يستوجب تمام النعمة ودوامها لأنّ الشكر قيد للنعمة الموجودة وجلب للنعمة المفقودة ﴿ومن كفر﴾ أي : بالنعمة ﴿فإنّ ربي﴾ أي : المحسن إليّ بتوفيقي لما أنا فيه من الشكر ﴿غني﴾ عن شكره لا يضرّه تركه شيئاً ﴿كريم﴾ أي : بإدرار الإنعام عليه فلا يقطعه عنه بسبب عدم شكره، ولما حصل العرش عنده.
﴿قال﴾ عليه السلام ﴿نكروا﴾ أي : غيروا ﴿لها عرشها﴾ أي : سريرها إلى حالة تنكره إذا رأته، قال قتادة ومقاتل : هو أن يزاد فيه وينقص، وروي أنه جعل أعلاه أسفله وأسفله أعلاه وجعل مكان الجوهر الأحمر أخضر ومكان الأخضر أحمر اختباراً لعقلها، كما اختبرتنا بالوصفاء والوصائف والدرة وغير ذلك.
وإليه أشار بقوله ﴿ننظر أتهتدي﴾ أي : إلى معرفته فيكون ذلك سبباً لهدايتها في الدين ﴿أم تكون من الذين﴾ شأنهم أنهم ﴿لا يهتدون﴾ بل هم في غاية الغباوة ولا يتجدّد لهم اهتداء، وقال وهب ومحمد بن كعب : إنما حمل سليمان على ذلك، أنّ الشياطين خافت أن يتزوجها سليمان فتفشي له أسرار الجنّ لأنّ أمها كانت جنية وإذا ولدت له ولداً لا ينفكون عن تسخير سليمان وذرّيته من بعده، فأساؤوا الثناء عليها ليزهدوه فيها، فقالوا : إنّ في عقلها شيئاً وإنّ رجليها كحافر الحمار وأنها شعراء الساقين، فأراد سليمان عليه الصلاة والسلام أن يختبر عقلها بتنكير عرشها وينظر إلى قدميها ببناء الصرح، ثم أشار إلى سرعة مجيئها إشارة إلى خضوعها بالتعبير بالفاء في قوله.
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٠٤
فلما جاءت﴾
وكانت قد وضعت عرشها في بيت خلف سبعة أبواب ووكلت به حراساً أشدّاء ﴿قيل﴾ لها وقد رأت عرشها بعد تنكيره ﴿أهكذا عرشك﴾ أي : مثل هذا عرشك ﴿قالت كأنه هو﴾ قال مقاتل : عرفته ولكنها شبهت عليهم كما شبهوا عليها، وقال عكرمة : كانت حكيمة لم تقل نعم خوفاً من أن تكذب ولم تقل لا خوفاً من التكذيب فقالت كأنه هو فعرف سليمان كمال عقلها حيث لم تقر ولم تنكر، وقيل : اشتبه عليها أمر العرش لأنها خلفته في بيت خلف سبعة أبواب مغلقة والمفاتيح معها فقيل لها فإنه عرشك فما أغنى عنك إغلاق الأبواب.
وقوله تعالى :﴿وأوتينا العلم من قبلها﴾ فيه وجهان : أحدهما : أنه من كلام بلقيس فالضمير في قبلها راجع للمعجزة والحالة الدال عليها السياق، والمعنى : وأوتينا العلم بنبوّة سليمان من قبل ظهور هذه المعجزة أو من قبل هذه الحالة، وذلك لما رأت قبل ذلك من أمر الهدهد ورد الهدية والرسل من قبلها من قبل الآية في العرش ﴿وكنا مسلمين﴾ أي : منقادين طائعين لأمر سليمان، والثاني : أنه من كلام سليمان وأتباعه فالضمير في قبلها عائد على بلقيس فكان سليمان وقومه
١٠٧
قالوا : إنها قد أصابت في جوابها وهي عاقلة وقد رزقت الإسلام، ثم عطفوا على ذلك قولهم ﴿وأوتينا العلم﴾ يعني بالله تعالى وبقدرته على ما يشاء من قبل هذه المرأة في مثل علمها وغرضهم من ذلك شكراً لله تعالى في أن خصهم بمزيد التقديم في الإسلام قاله مجاهد، وقيل : معناه وأوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة من قبل مجيئها وكنا مسلمين طائعين لله تعالى، واختلف في فاعل قوله عز وجل.
﴿وصدّها ما كانت تعبد من دون الله﴾ على ثلاثة أوجه : أحدها : ضمير البارئ تعالى، الثاني ضمير سليمان عليه السلام، أي : منعها ما كانت تعبد من دون الله وهو الشمس، وعلى هذا فما كانت تعبد منصوب على إسقاط الخافض، أي : وصدّها الله تعالى أو سليمان عما كانت تعبد من دون الله قاله الزمخشريّ مجوزاً له، قال أبو حيان وفيه نظر من حيث إنّ حذف الجار ضرورة كقوله :
*تمرّون الديار فلم تعوجوا*
وقد تقدم آيات كثيرة من هذا النوع، والثالث : أنّ الفاعل هو ما كانت أي : صدّها ما كانت تعبد عن الإسلام أي : صدّها عبادة الشمس عن التوحيد وقوله تعالى :﴿إنها كانت من قوم كافرين﴾ استئناف أخبر الله تعالى أنها كانت من قوم يعبدون الشمس، فنشأت بينهم ولم تعرف العبادة ولم تعرف إلا عبادة الشمس، ولما تم ذلك فكأنه قيل : هل كان بعد ذلك اختبار فقيل نعم.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٠٤


الصفحة التالية
Icon