جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٠
فذم العذاب ومكانه ؛ لأن النعيم لا يتم للمتنعم إلا بطيب المكان وسعته وموافقته للمراد والشهوة، وإلا تنغص، وكذلك العقاب يتضاعف بغثاثة الموضع وضيقه وظلمته،
١٠
فلذلك ذكر المصير مع ذكر الجزاء.
تنبيه : المتقي يشمل من اتقى الكفر وإن لم يتق المعاصي وإن كان غيره أكمل، ثم ذكر تعالى تنعمهم فيها بعد أن ذكر نعيمهم بقوله تعالى :
﴿لهم فيها﴾ أي : الجنة ﴿ما يشاؤون﴾ من كل ما تشتهيه أنفسهم كما قال تعالى :﴿ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم﴾ (فصلت، ٣١)
﴿وفيها ما تشتهي الأنفس﴾ (الزخرف، ٧١)
فإن قيل : أهل الدرجات النازلة إذا شاهدوا الدرجات العالية لابد وأن يريدوها، فإذا سألوها ربهم فإن أعطاها لهم لم يبق بين الناقص والكامل تفاوت في الدرجة، وإن لم يعطها لهم قدح ذلك في قوله تعالى :﴿لهم فيها ما يشاؤون﴾ ؟
أجيب : بأن الله تعالى يزيل هذا الخاطر عن قلوب أهل الجنة ويشتغلون بما هم فيه من اللذات عن الالتفات إلى حال غيرهم، وقوله تعالى :﴿خالدين﴾ منصوب على الحال إما من فاعل يشاؤون، وإما من فاعل لهم لوقوعه خبراً، والعائد على ما محذوف أي : لهم فيها الذي يشاؤونه حال كونهم خالدين وقوله تعالى :﴿كان على ربك﴾ أي : وعدهم ما ذكر ﴿وعداً﴾ يدل على أن الجنة جعلت لهم بحكم الوعد والتفضل لا بحكم الاستحقاق، وقوله تعالى :﴿مسؤولاً﴾ أي : مطلوباً، اختلف في السائل، فالأكثر على أن المؤمنين سألوا ربهم في الدنيا حين قالوا :﴿ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك﴾ (آل عمران، ١٩٤)
روي أنه ﷺ قال :"ما منكم من يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه بها إحدى ثلاث : إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها، قالوا : إذاً نكثر ؟
قال : الله تعالى أكثر"، وروي :"أنه يدعى بالمؤمن يوم القيامة حتى يوقفه الله تعالى بين يديه فيقول : عبدي فيقول : نعم يارب فيقول : إني أمرتك أن تدعوني ووعدتك أن أستجيب لك فهل كنت تدعوني ؟
أما إنك لم تدعني بدعوة إلا استجبت لك أليس دعوتني يوم كذا وكذا لغمٍ نزل بك أن أفرج عنك ففرجت عنك ؟
فيقول : نعم يا رب فيقول : إني عجلتها لك في الدنيا، ودعوتني يوم كذا وكذا لغمٍ نزل بك أن أفرج عنك فلم تر فرجاً ؟
قال : نعم يارب فيقول : إني ادّخرت لك بها في الجنة كذا وكذا، ودعوتني في حاجة أقضيها لك في يوم كذا وكذا فقضيتها ؟
فيقول : نعم يارب فيقول : إني عجلتها لك في الدنيا، ودعوتني يوم كذا وكذا في حاجة أقضيها لك فلم تر قضاءها ؟
فيقول : نعم يارب، فيقول : إني ادخرت لك بها في الجنة كذا وكذا قال رسول الله ﷺ فلا يدع الله دعوة دعا بها عبده المؤمن إلا بين له، إما أن يكون عجل له في الدنيا وإما أن يكون ادخر له في الآخرة فيقول المؤمن في هذا المقام : يا ليته لم يكن عجل له شيء من دعائه"، وروي :"لا تعجلوا في الدعاء فإنه لايهلك مع الدعاء أحد"، وروي :"ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة" وروي :"يستجاب لأحدكم ما لم يعجل فيقول : دعوت فلم يستجب لي"، وروي :
١١
"لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل قيل : يا رسول الله ما الإستعجال قال : يقول : قد دعوت فلم يستجب لي فيستحسر" أي : يمل عند ذلك ويدع الدعاء، فليدع الإنسان وهو موقن بالإجابة.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٠
وقال محمد بن كعب القرظي : الطلب من الملائكة للمؤمنين سألوا ربهم للمؤمنين بقولهم ﴿ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم﴾ وقيل : إن المكلفين سألوها بلسان الحال ؛ لأنهم لما تحملوا المشقة الشديدة في طاعة الله كان ذلك قائماً مقام السؤال، قال المتنبي :
*في النفس حاجات وفيك فطانة
** سكوتي كلام عندها وخطاب
ولما ذكر تعالى حالهم في نفسهم أتبعه ذكر حالهم مع معبوداتهم من دونه بقوله تعالى :
﴿ويوم﴾ أي : واذكر لهم يوم ﴿نحشرهم﴾ أي : المشركين، وقرأ ابن كثير وحفص بالياء، والباقون بالنون، واختلف في المراد بقوله تعالى :﴿وما يعبدون من دون الله﴾ أي : غيره فقال الأكثرون : من الملائكة والجن والمسيح وعزير وغيرهم، وقال عكرمة والضحاك والكلبي : من الأصنام، فقيل لهم : كيف يخاطب الله تعالى الجماد بقوله تعالى :﴿فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء﴾ أي : أوقعتموهم في الضلال بأمركم إياهم بعبادتكم ﴿أم هم ضلوا السبيل﴾ أي : طريق الحق بأنفسهم، فأجابوا بوجهين :
أحدهما : أنه تعالى يخلق الحياة فيها ويخاطبها.
ثانيهما : أن يكون ذلك بالكلام النفساني لا بالقول اللساني بل بلسان الحال كما ذكره بعضهم في تسبيح الجماد وكلام الأيدي والأرجل، ويجوز أن يكون السؤال عاماً لهم جميعاً، فإن قيل : كيف صح استعمال ما في العقلاء ؟
أجيب : على الأول : بأنه أريد به الوصف كأنه قيل : ومعبوديهم ألا تراك تقول إذا أردت السؤال عن صفة زيد : ما زيد تعني أطويل أم قصير، فقيه أم طبيب ؟
، وقال تعالى :﴿والسماء وما بناها﴾ (الشمس، ٥)