وقرأ تحسبها بكسر السين نافع وابن كثير وأبو عمرو والكسائي وفتحها الباقون وقوله تعالى ﴿صنع الله﴾ مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله أضيف إلى فاعله بعد حذف عامله، أي : صنع الله ذلك صنعاً، ثم زاد في التعظيم بقوله دالاً على تمام الإحكام في ذلك الصنع ﴿الذي أتقن﴾ أي : أحكم ﴿كل شيء﴾ صنعه ولما ثبت هذا على هذا الوجه المتقن والنظام الأمكن أنتج قطعاً قوله تعالى :﴿إنه﴾ أي : الذي أتقن هذه الأمور ﴿خبير بما يفعلون﴾ أي : عالم بظواهر الأحوال وبواطنها ليجازيهم عليها كما قال تعالى :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٢٠
﴿من جاء بالحسنة﴾ أي : الكاملة وهي الإيمان، وعن ابن عباس الحسنة كلمة الشهادة ﴿فله خير﴾ أي : أفضل ﴿منها﴾ مضاعفاً أقلّ ما يكون عشرة أضعاف إلى ما لا يعلمه إلا الله تعالى، وقيل له خير : حاصل من جهتها وهو الجنة وفسر الجلال المحلي الحسنة بلا إله إلا الله، وقال في ﴿فله﴾ خير منها، أي : بسببها فليس للتفضيل إذ لا فعل خير منها وهذا يناسب القول الثاني ﴿وهم﴾ أي : الجاؤون بها ﴿من فزع يومئذ﴾ أي : يومئذ إذ وقعت هذه الأحوال العظيمة ﴿آمنون﴾ أي : حتى لا يحزنهم الفزع الأكبر.
وقرأ يفعلون ابن كثير وأبو عمرو وهشام بالياء التحتية على الغيبة، والباقون بالفوقية على الخطاب، وقرأ وهم من فزع يومئذ آمنون الكوفيون بتنوين العين، والباقون بغير تنوين وهم أعمّ فإنه يقتضي الأمن من جميع فزع ذلك اليوم، وأمّا قراءة التنوين فتحتمل معنيين من فزع واحد وهو خوف العذاب، وأمّا ما يلحق الإنسان من الرعب ومشاهدته فلا ينفك منه أحد، ومن فزع شديد مفرط الشدّة لا يكتنهه الوصف وهو خوف النار، وقرأ نافع والكوفيون : بفتح الميم من يومئذ والباقون بكسرها فإن قيل : أليس قال تعالى في أوّل الآية ﴿ففزع من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله﴾ (النمل، ٨٧) فكيف نفى الفزع ههنا ؟
أجيب : بأنّ الفزع الأوّل لا يخلو منه أحد عند الإحساس بشدّة تقع أو هول يفجأ إلا ما استثنى وإن كان المحسن آمناً من لحاق الضرر، وأما الثاني فهو الخوف من العذاب.
﴿ومن جاء بالسيئة﴾ أي : التي لا سيئة مثلها وهي الشرك لقوله تعالى ﴿فكبت﴾ أي : بأيسر أمر ﴿وجوههم في النار﴾ بأن وليتها مع أنه ورد في الصحيح أنّ مواضع السجود التي أشرفهاالوجه لا سبيل للنار عليها والوجه أشرف ما في الإنسان فإذا هان كان ما سواه أولى بالهوان، والمكبوب
١٢٥
عليه منكوس ويقال له تبكيتاً ﴿هل﴾ أي : ما ﴿تجزون إلا﴾ جزاء ﴿ما كنتم تعملون﴾ أي : من الشرك والمعاصي.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٢٥
تنبيه : جعل مقابلة الحسنة بالثواب والسيآت بالعقاب من جملة أحكامه للأشياء وإتقانه لها وإجرائه لها على قضايا الحكمة إنه عليم بما يفعل العباد وبما يستوجبون عليه فيكافئهم على حسب ذلك فانظر إلى بلاغة هذا الكلام وحسن نظمه وترتيبه، وأخذ بعضه بحجزة بعض كأنما أفرغ إفراغاً واحداً ولأمر ما أعجز القوى وأخرس الشقاشق والادعاء، ثم أمر الله تعالى رسوله ﷺ أن يقول لقومه.
﴿إنما أمرت﴾ أي : بأمر من لا يردّ له أمر ﴿أن أعبد﴾ أي : بجميع ما آمركم به ﴿رب﴾ أي : موجد ومدبر ﴿هذه البلدة﴾ أي : مكة التي تخرج الدابة منها فيفزع كل من رآها ثم تؤمن أهل السعادة أخصه بذلك لا أعبد شيئاً مما تعبدونه ﴿الذي حرّمها﴾ أي : جعلها الله تعالى حرماً آمناً لا يسفك فيها دم ولا يظلم فيها أحد ولا يصاد صيدها ولا يختلي خلاها ولما خصص مكة بهذه الإضافة تشريفاً لها وتعظيماً لشأنها قال احترازاً عما قد يتوهم ﴿وله كل شيء﴾ أي : من غيرها مما أشركتموه به وغيره خلقاً وملكاً : ولما كانوا ربما قالوا نحن نعبده بعبادة من نرجوه يقرّبنا إليه زلفى، عين له الدين الذي تكون به العبادة بقوله :﴿وأمرت﴾ أي : مع الأمر بالعبادة له وحده ﴿أن أكون﴾ أي : كوناً هو في غاية الرسوخ ﴿من المسلمين﴾ أي : المنقادين لجميع ما يأمر به كتابه أتمّ انقياد ثابتاً على ذلك غاية الثبات.
﴿وأن﴾ أي : وأمرت أن ﴿أتلو القرآن﴾ عليكم تلاوة الدعوة إلى الإيمان، أو أن أواظب على تلاوته لتنكشف لي حقائقه في تلاوته شيئاً فشيئاً ﴿فمن اهتدى﴾ أي : باتباع هذا القرآن الداعي إلى الجنان ﴿فإنما يهتدي لنفسه﴾ أي : لأجلها لأنّ ثواب هدايته له ﴿ومن ضلّ﴾ أي : عن الإيمان الذي هو الطريق المستقيم ﴿فقل﴾ أي : له كما تقول لغيره ﴿إنما أنا من المنذرين﴾ أي : المخوّفين له عواقب صنعه فلا عليّ من وبال ضلاله شيء إذ ما على الرسول إلا البلاغ وقد بلغت.
﴿وقل﴾ أي : إنذاراً لهم وترغيباً وترجئة وترهيباً ﴿الحمد﴾ أي : الإحاطة بأوصاف الكمال ﴿لله﴾ أي : الذي له العظمة كلها على نعمة النبوّة وعلى ما علمني ووفقني للعمل به ﴿سيريكم آياته﴾ القاهرة في الدنيا كوقعة بدر وخروج دابة الأرض وفي الآخرة بالعذاب الأليم ﴿فتعرفونها﴾ أي : فتعرفون أنها آيات الله ولكن حين لا تنفعكم المعرفة.
﴿وما ربك﴾ أي : المحسن إليك بجميع ما أقامك فيه من هذه الأمور العظيمة والأحوال الجسيمة.
﴿بغافل عما تعملون﴾ أي : فلا تحسبوا أن تأخير عذابكم لغفلته عن أعمالكم، وقرأ نافع وابن عامر وحفص : بالتاء على الخطاب لأنّ المعنى عما تعمل أنت وأتباعك من الطاعة وهم من المعصية، والباقون بالياء على الغيبة وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري :"من أنّ من قرأ طس كان له من الأجر عشرة حسنات بعدد من صدق سليمان وكذب به وهود وشعيب وصالح وإبراهيم ويخرج من قبره وهو ينادي لا إله إلا الله" حديث موضوع.
١٢٦
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٢٥


الصفحة التالية
Icon