﴿فأصبح في المدينة﴾ أي : التي قتل القتيل فيها ﴿خائفاً﴾ أي : بسبب قتله له ﴿يترقب﴾ أي : ينتظر ما يناله من جهة القتيل، قال البغويّ : والترقب انتظار المكروه، وقال الكلبيّ : ينتظر متى يؤخذ به ﴿فإذا﴾ أي : ففجأه ﴿الذي استنصره﴾ أي : طلب نصرته من شيعته ﴿بالأمس﴾ أي : اليوم الذي يلي يوم الاستصراخ ﴿يستصرخه﴾ أي : يطلب أن يزيل ما يصرخ بسببه من الضر من قبطيّ آخر كان يظلمه، فكأنه قيل : فما قال له موسى بعدما أوقعه فيما يكره فقيل ﴿قال له﴾ أي : لهذا المستصرخ ﴿موسى إنك لغويّ﴾ أي : صاحب ضلال بالغ ﴿مبين﴾ أي : واضح الضلال غير خفيه لكون ما وقع بالأمس لم يكفك عن الخصومة لمن لا تطيقه وإن كنت مظلوماً ثم دنا منهما لينصره.
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٣٥
فلما أن أراد﴾ أي : شاء فإن مزيدة ﴿أن يبطش﴾ أي : موسى عليه السلام ﴿بالذي هو عدوّ لهما﴾ أي : لموسى والإسرائيلي لأنه لم يكن على دينهما ولأنّ القبط كانوا أعداء بني إسرائيل بأن يأخذه
١٣٧
بعنف وسطوة لخلاص الإسرائيلي منه ﴿قال﴾ أي : الإسرائيلي الغويّ لأجل ما رأى من غضبه وتكليمه له ظاناً أنه يريد البطش به ﴿يا موسى﴾ ناصاً عليه باسمه ﴿أتريد أن تقتلني﴾ أي : اليوم وأنا من شيعتك ﴿كما قتلت نفساً بالأمس﴾ أي : من شيعة أعدائنا والذي يدل على أن الإسرائيلي هو الذي قال له هذا الكلام السياق، وعليه الأكثرون، لأنه لم يعلم بقتل القبطي غير الإسرائيلي، وقيل : إنما قال موسى للفرعوني ﴿إنك لغويّ مبين﴾ بظلمك ويناسبه قوله ﴿إن﴾ أي : ما ﴿تريد إلا أن تكون جباراً﴾ أي : قاهراً عالياً فلا يليق ذلك إلا بقول الكافر، أو أن الإسرائيلي لما ظن قتله فإن ذلك، وقد قيل في الإسرائيلي أنه كان كافراً، قال أبو حيان وشأن الجبار أن يقتل بغير حق ﴿في الأرض﴾ أي : التي تكون بها فلا يكون فوقك أحد ﴿وما تريد﴾ أي : تتخذ ذلك إرادة ﴿أن تكون﴾ أي : كوناً هو لك كالجبلة ﴿من المصلحين﴾ أي : الغريقين في الصلاح فإنّ الصلح بين الناس لا يصل إلى القتل على هذه الصورة فلما سمع القبطيّ هذا ترك الإسرائيلي وكان القبط لما قتل ذلك القبطي ظنوا في بني إسرائيل فأغروا فرعون بهم وقالوا إنّ بني إسرائيل قتلوا منا رجلاً فخذ لنا بحقنا فقال ابغوا لي قاتله ومن يشهد عليه فإن الملك وإن كان صفوة مع قومه لا يستقيم له أن يقضي بغير بينة ولا تثبت فلما قال هذا الغوي هذه المقالة علم القبطي أن موسى عليه السلام هو الذي قتل الفرعوني فانطلق إلى فرعون فأخبره بذلك فأمر فرعون بقتل موسى.
قال ابن عباس : فلما أرسل فرعون الذباحين لقتل موسى أخذوا الطريق الأعظم.
﴿وجاء رجل﴾ أي : ممن يحب موسى عليه السلام واختلف في اسمه فقيل حزقيل مؤمن آل فرعون، وقيل شمعون وقيل شمعان، وكان ابن عمّ فرعون ﴿من أقصى المدينة﴾ أي : أبعدها مكاناً ﴿يسعى﴾ أي : يسرع في مشيه فأخذ طريقاً قريباً حتى سبق إلى موسى فأخبره وأنذره حتى أخذ طريقاً آخر، فكأنه قيل فما قال الرجل له فقيل :
﴿قال﴾ منادياً لموسى تعطفاً وإزالة للبس ﴿يا موسى إنّ الملأ﴾ أي : أشراف القبط الذين في أيديهم الحلّ والعقد لأنّ لهم القدرة على الأمر والنهي ﴿يأتمرون بك﴾ أي : يتشاورون في شأنك ﴿ليقتلوك﴾ حتى وصل حالهم في تشاورهم إلى أن كلاً منهم يأمر الآخر ويأنمر بأمره لأنهم سمعوا أنك قتلت صاحبهم ﴿فاخرج﴾ أي : من هذه المدينة ثم علل ذلك بقوله على سبيل التأكيد ليزيل ما يطرقه من احتمال عدم القتل لكونه عزيزاً عند الملك ﴿إني لك من الناصحين﴾ أي : الغريقين في نصحك.
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٣٥
فخرج﴾ أي : موسى عليه السلام مبادراً ﴿منها﴾ أي : المدينة لما علم صدق قوله مما تحققه من القرائن حال كونه ﴿خائفاً﴾ على نفسه من آل فرعون ﴿يترقب﴾ أي : يكثر الإلتفات بإدارة رقبته في الجهات ينظر هل يتبعه أحد ثم دعا الله تعالى بأن ﴿قال رب﴾ أي : أيها المحسن إليّ بالنجاة وغير ذلك من وجوه البر ﴿نجني﴾ أي : خلصني ﴿من القوم الظالمين﴾ أي : الذين يضعون الأمور في غير مواضعها فيقتلون من لا يستحق القتل مع قوتهم فاستجاب الله تعالى دعاءه فوفقه لسلوك الطريق الأعظم نحو مدين فكان ذلك سبب نجاته، وذلك أنّ الذين انتدبوا إليه قطعوا بأنه لا يسلك الطريق الأكبر جرياً على عادة الخائفين الهاربين، وفي القصة أن فرعون لما بعث في طلبه قال اركبوا ثنيات الطريق فانبثوا فيما ظنوه يميناً وشمالاً ففاتهم.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٣٥
﴿ولما توجه﴾ أي : أقبل بوجهه قاصداً ﴿تلقاء﴾ أي : الطريق الذي يلاقي سالكه أرض ﴿مدين﴾ قال ابن عباس : خرج وما قصد مدين ولكنه سلم نفسه إلى الله تعالى ومشى من غير معرفة
١٣٨