ويحتمل أن يكون لها كمّ قصير فمن نفى نظر إلى قصره ومن أثبت نظر إلى أصله وحينئذٍ لا تعارض، وفي البغوي عن ابن عباس : أن الله تعالى أمره أن يضم يده إلى صدره ليذهب عنه الروع وما ناله من الخوف عند معاينة الحية وقال : وما من خائف بعد موسى عليه السلام إلا إذا وضع يده على صدره زال خوفه، وقال مجاهد : وكل من فزع فضمّ جناحه إليه ذهب عنه الفزع، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الراء والهاء وحفص بفتح الراء وسكون الهاء، والباقون بضمّ الراء وسكون الهاء، والكل لغات، ولما تم كونه آية بانقلابها إلى البياض ثم رجوعها إلى لونها قال الله تعالى :﴿فذانك﴾ أي : العصا واليد البيضاء، وشدد ابن كثير وأبو عمرو النون، وخففها الباقون ﴿برهانان﴾ أي : سلطانان وحجتان قاهرتان مرسلان ﴿من ربك﴾ أي : المحسن إليك لا يقدر على مثلهما غيره ﴿إلى فرعون وملإيه﴾ أي : وأنت مرسل بهما إليهم كلما أردت ذلك وجدته لا أنهما يكونان لك هنا في هذه الحضرة فقط، فإن قيل لم سميت الحجة برهاناً ؟
أجيب : بأنّ ذلك لبياضها وإنارتها من قولهم للمرأة البيضاء برهرهة بتكرير العين واللام معاً والدليل على زيادة النون قولهم أبره الرجل إذا جاء بالبرهان ونظيره تسميتهم إياها سلطاناً من السليط وهو الزيت لإنارتها، ثم علل الإرسال إليهم على وجه إظهار الآيات لهم واستمرارها بقوله :
﴿إنهم كانوا﴾ أي : جبلة وطبعاً ﴿قوماً﴾ أي : أقوياء ﴿فاسقين﴾ أي : خارجين عن الطاعة فكانوا أحقاء أن يرسل إليهم، ولما قال تعالى :﴿فذانك برهانان﴾ إلى آخره تضمن ذلك أن يذهب موسى بهذين البرهانين إلى فرعون وقومه فعند ذلك طلب من يعينه بأن ﴿قال رب﴾ أي : أيها المحسن إليّ ﴿إني قتلت منهم
١٤٧
نفّساً﴾ هو القبطي السابق وأنت تعلم أني ما خرجت إلا هارباً منهم لأجلها ﴿فأخاف﴾ إن بدأتهم بمثل ذلك ﴿أن يقتلون﴾ به لوحدتي وغربتي وثقل لساني في إقامة الحجج فأخاف أن يفوت المقصود بقتلي ولا يحمي من ذلك إلا أنت وإنّ لساني فيه عقدة.
﴿وأخي هارون هو أفصح مني لساناً﴾ أي : من جهة اللسان للعقدة التي كانت حصلت له من وضع الجمرة في فيه وهو طفل في كفالة فرعون، وقيل كانت من أصل الخلقة والفصاحةُ لغةً الخلوص ومنه فصح اللبن خلص من رغوته وفصح الرجل جادت لغته، وأفصح تكلم بالعربية ﴿فأرسله﴾ أي : بسبب ذلك ﴿معي رِدْءَاً﴾ أي : معيناً من ردأت فلاناً بكذا أي : جعلته له قوّة وعاضداً وردأت الحائط إذا دعمته بخشب أو كبش يدفعه أن يسقط، وقرأ نافع بنقل حركة الهمزة إلى الدال وحذف الهمزة، والباقون بسكون الدال وتنوين الهمزة بعدها، ولما كان له عليه من العطف والشفقة ما يقصر الوصف عنه نبه على ذلك بإجابة السؤال بقوله ﴿يصدّقني﴾ أي : بأن يخلص بفصاحته ما قلته ويبينه ويقيم الأدلة عليه حتى يصير كالشمس وضوحاً فيكون مع تصديقه لي بنفسه سبباً في تصديق غيره لي.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٤٤
وقرأ عاصم وحمزة بضم القاف على الاستئناف أو الصفة لردءاً والباقون بالسكون جواباً للأمر، قال الرازي : ليس الغرض بتصديق هارون أن يقول له صدقت أو يقول للناس صدق موسى وإنما هو أن يخلص بلسانه الفصيح وجوب الدلائل ويجيب عن الشبهات ويجادل به الكفار فهذا هو التصديق المفيد، وفائدة الفصاحة إنما تظهر في ذلك لا في مجرّد قوله صدقت، قال السدي : نبيان وآيتان أقوى من نبي واحد وآية واحدة وهذا ظاهر من جهة العادة وأما من جهة الدلالة فلا فرق بين معجز ومعجزين، ثم علل سؤاله هذا بقوله ﴿إني أخاف أن يكذبون﴾ أي : فرعون وقومه ولساني لا يطاوعني عند المحاجة.
﴿قال﴾ الله تعالى له مجيباً لسؤاله ﴿سنشدّ عضدك﴾ أي : أمرك ﴿بأخيك﴾ أي : سنقويك ونعينك به ﴿ونجعل لكما سلطاناً﴾ أي : ظهوراً عظيماً وغلبة لهم بالحجج والهيبة لأجل ما ذكرت من الخوف ﴿فلا﴾ أي : فتسبب عن ذلك أنهم لا ﴿يصلون إليكما﴾ بنوع من أنواع الغلبة ﴿بآياتنا﴾ أي : نجعل ذلك بسبب ما يظهر على أيديكما من الآيات العظيمة بنسبتها إلينا ولذلك كانت النتيجة ﴿أنتما ومن اتبعكما﴾ من قومكما وغيرهم ﴿الغالبون﴾ أي : لا غيركم وهذا يدل على أنّ فرعون لم يصل إلى السحرة بشيء مما هددهم به لأنهم من أكبر الأتباع الباذلين أنفسهم في الله تعالى وليس في القرآن ما يدل على أنه فعل بهم ما أوعدهم به.
قال البقاعي : وكأنه حذف أمرهم هنا لأنه في بيان أمر فرعون وجنوده بدليل ما كرّر من ذكرهم وقد كشفت العاقبة عن أنّ السحرة ليسوا من جنوده بل من حزب الله تعالى وجنده، ومع ذلك فقد أشار إليهم بهذه الآية والتي بعدها. اه ولما كان التقدير فأتاهم كما أمره الله تعالى وعاضده أخوه كما أخبر الله تعالى ودعاهم إلى الله تعالى وأظهرا ما أمرا به من الآيات بنى عليه مبيناً بالفاء سرعة امتثاله.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٤٤