وقيل علم القرآن جعله علامة.
وآية ﴿علمه البيان﴾ أي القوّة الناطقة وهي الإدراك للأمور الكلية والجزئية، والحكم على الحاضر والغائب بقياسه على الحاضر، وغير ذلك مما أودعه له سبحانه مع تعبيره عما أدركه مما هو غائب في ضميره وإفهامه لغيره : تارة بالقول وتارة بالفعل، نطقاً وكتابة وإشارة وغيرها، فصار بذلك ذا قدرة في نفسه والتكميل لغيره فهذا تعليم البيان الذي مكن من تعليم القرآن، وقال ابن عباس وقتادة والحسن : يعني آدم عليه السلام علم أسماء كل شيء، وقيل : علمه اللغات كلها وكان
١٥٨
آدم يتكلم بسبعمائة ألف لغة أفضلها العربية، وعن ابن عباس أيضاً وابن كيسان : المراد بالإنسان ههنا محمد ﷺ والمراد من البيان : الحلال والحرام والهدى من الضلال، وقيل : ما كان وما يكون لأنه بين عن الأولين والآخرين، وعن يوم الدين، وقال الضحاك : البيان : الخير والشرّ، وقال الربيع بن أنس : هو ما ينفعه وما يضره. وقال السدي : علم كل قوم لسانهم الذي يتكلمون به. وقيل : بيان الكتابة والخط بالقلم نظيره قوله تعالى :﴿علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم﴾.
فإن قيل : لِمَ قدّم تعليم القرآن للإنسان على خلقه وهو متأخر عنه في الوجود ؟
أجيب : بأنّ التعليم هو السبب في إيجاده وخلقه.
فإن قيل : كيف صرح بذكر المفعولين في علمه البيان ولم يصرح بهما في علم القرآن ؟
أجيب : بأنّ في ذلك إشارة إلى أن النعمة في التعميم لا في تعليم شخص دون شخص، وبأنّ المراد من قوله تعالى :﴿علمه البيان﴾ : تعديد النعم على الإنسان واستدعاء الشكر منه ؛ ولم يذكر الملائكة لأنّ المقصود ذكر ما يرجع إلى الإنسان. وقيل : تقديره علم جبريل القرآن وقيل علم محمداً ﷺ وقيل علم الإنسان وهذا أولى لعمومه.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٥٧
تنبيه هذه الجمل من قوله تعالى :﴿علم القرآن﴾ إلى هنا جيء بها من غير عاطف لأنها سيقت لتعديد نعمه ؛ كقولك : فلان أحسن إلى فلان أكرمه أشاد ذكره رفع قدره ؛ فلشدّة الوصل ترك العاطف ؛ وهي أخبار مترادفة للرّحمن.
ولما ذكر تعالى خلق الإنسان وإنعامه عليه بتعليمه البيان ذكر نعمتين عظيمتين بقوله تعالى :﴿الشمس﴾ وهي آية النهار ﴿والقمر﴾ وهي آية الليل ﴿بحسبان﴾ فإنهما على قانون واحد وحساب لا يتغيران وبذلك تتم منفعتهما للزراعات وغيرها ولولا الشمس والقمر لفات كثير من المنافع الظاهرة بخلاف غيرهما من الكواكب فإنّ نعمها لا تظهر لكل أحد مثل ظهور نعمتهما، وإنهما بحسبان لا يتغير أبدا، ولو كان سيرهما غير معلوم للخلق لما انتفعوا بالزراعات في أوقاتها ومعرفة فصول السنة، والمعنى يجريان بحسبان معلوم فأضمر الخبر. قال ابن عباس وقتادة وأبو مالك : يجريان بحسبان في منازل لا يعدوانها ولا يحيدان عنها. وقال أبو زيد وابن كيسان بهما تحسب الأوقات والأعمار، ولولا الليل والنهار والشمس والقمر لم يدر أحد كيف يحسب شيئاً إن كان الدهر كله ليلاً أو نهاراً. وقال السدي : بحسبان تقدير آجالهما أي : يجريان بآجال كآجال الناس، فإذا جاء أجلهما هلكا نظيره ﴿كل يجري إلى أجل مسمى﴾ (لقمان : ٢٩)
﴿والنجم﴾ أي : النبات الذي ينجم أي يطلع من الأرض ولا ساق له كالبقول ﴿والشجر﴾ أي : الذي له ساق كشجر الرمان وتقدم الجواب عن قوله تعالى :﴿وأنبتنا عليه شجرة من يقطين﴾ (الصافات : ١٤٦)
في سورة الصافات ﴿يسجدان﴾ أي : ينقادان لله تعالى فيما يريده طبعاً انقياد الساجد من المكلفين طوعاً وقال الضحاك سجودهما سجود ظلالهما. وقال الفراء سجودهما أنهما يستقبلان إذا طلعت الشمس ثم يميلان معها حتى ينكسر الفيء، وقال الزجاج : سجودهما دوران الظل معهما كما قال تعالى :﴿يتفيؤوا ظلاله﴾ (النحل : ٤٨)
وقال الحسن ومجاهد : النجم نجم السماء وسجوده في قول مجاهد دوران ظله ؛ وقيل : سجود النجم أفوله وسجود الشجر إمكان الاجتناء لثمارها حكاه الماوردي.
١٥٩
وقال النحاس : أصل السجود في اللغة الاستسلام والانقياد لله عز وجل فهو من الموات كلها استسلامها لأمر الله عز وجل وانقيادها له، ومن الحيوان كذلك.
فإن قيل : كيف اتصلت هاتان الجملتان بالرحمن ؟
أجيب بأنه استغنى فيهما عن الوصل اللفظي بالوصل المعنوي لما علم أنّ الحسبان حسبانه والسجود له لا لغيره كأنه قيل الشمس والقمر بحسبانه والنجم والشجر يسجدان له.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٥٧
فإن قيل : أي تناسب بين هاتين الجملتين حتى وسط بينهما العاطف ؟
أجيب : بأنّ الشمس والقمر سماويان والنجم والشجر أرضيان فبين القبيلين تناسب من حيث التقابل، فإن السماء والأرض لا تزالان تذكران قرينتين، وأنَّ جرى الشمس والقمر بحسبان من جنس الانقياد لأمر الله تعالى فهو مناسب لسجود النجم والشجر.