ولما كانت الجنان لا تقوم إلا بأنهار قال تعالى :﴿فيهما عينان تجريان﴾ أي : في كل واحدة منهما عين جارية قال ابن عباس تجريان : ماء بالزيادة والكرامة من الله تعالى على أهل الجنة ؛ وعن ابن عباس أيضاً والحسن : تجريان بالماء الزلال إحدى العينين التسنيم والأخرى السلسبيل ؛ وقال عطية : أحدهما من ماء غير آسن، والأخرى من خمر لذة للشاربين ؛ وقيل : تجريان من جبل من مسك قال أبو بكر الوراق : فيهما عينان تجريان لمن كانت عيناه في الدنيا تجريان من مخالفة الله عز وجل فتجريان في أي مكان شاء صاحبهما وإن علا مكانه كما تصعد المياه في الأشجار في كلّ غصن منها وإن زاد علوها.
﴿فبأي آلاء﴾ أي : نعم ﴿ربكما﴾ أي : المالك لكما والمحسن إليكما ﴿تكذبان﴾ أبتلك النعم التي ذكرها وجعل لها في الدنيا أمثالاً كثيرة أم بغيرها ؟
﴿فيهما﴾ أي : الجنتين ﴿من كل فاكهة﴾ أي : تعلمونها أو لا تعلمونها ﴿زوجان﴾ أي : صنفان ونوعان قيل : معناه أنّ فيهما من كلّ ما يتفكه به ضربين رطباً ويابساً ؛ وقال ابن عباس : ما في الدنيا ثمرة حلوة ولا مرّة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل إلا أنه حلو.
فإن قيل : قوله تعالى :﴿ذواتا أفنان﴾ و﴿فيهما عينان تجريان﴾ و﴿فيهما من كل فاكهة زوجان﴾ كلها أوصاف للجنتين فما الحكمة في فصل بعضها عن بعض بقوله تعالى ﴿فبأي آلاء ربكما تكذبان﴾ مع أنه تعالى لم يفصل حين ذكر العذاب بين الصفات ؛ بل قال تعالى :﴿يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران﴾ مع أنّ إرسال الشواظ غير إرسال النحاس ؟
أجيب : بأنه تعالى جمع العذاب جملة، وفصل آيات الثواب ترجيحاً لجانب الرحمة على جانب العذاب، وتطييباً للقلب وتهييجاً للسامع فإن إعادة ذكر المحبوب وتطويل الكلام في اللذات مستحسن.
فإن قيل : فما وجه توسط آية العينين بين ذكر الأفنان وآية الفاكهة والفاكهة إنما تكون على الأعصان، والمناسبة ألا يفصل بين آية الأغصان والفاكهة ؟
أجيب : بأنّ ذلك على عادة المتنعمين إذا خرجوا متفرجين في البستان ؛ فأوّل قصدهم الفرجة بالخضرة والماء ثم يكون الأكل تبعاً.
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٧٣
فبأي آلاء﴾ أي : نعم ﴿ربكما﴾ التي ادخرها الموجد لكما المحسن إليكما ﴿تكذبان﴾ أبتلك النعم أم بغيرها مما فوضه إليكم من سائر النعم التي لا تحصى.
ولما كان التفكه لا يكمل حسنه إلا مع التنعم من طيب الفرش وغيره ؛ قال تعالى مخبراً عن هؤلاء الذين يخافون مقام ربهم ﴿متكئين﴾ أي : لهم ما ذكر حال الاتكاء، والعامل في الحال محذوف أي يتنعمون متكئين ﴿على فرش﴾ وعظمها بقول تعالى مخاطباً للمكلفين بما يحتمل عقولهم وإلا فليس في الجنة ما يشبهه على الحقيقة شيء من الدنيا ﴿بطائنها من استبرق﴾ وهو ما غلظ من الديباج ؛ قال ابن مسعود : وأبو هريرة : إذا كانت البطائن التي تلي الأرض هكذا، فما ظنك بالظهارة ؟
وقيل لسعيد بن جبير : البطائن من استبرق فما الظاهر ؟
قال : هذا مما قال الله تعالى ﴿فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرّة أعين﴾ (السجدة : ١٧)
وقال ابن عباس : إنما وصف لكم بطائنها لتهتدي إليه قلوبكم فأمّا الظواهر فلا يعلمها إلا الله تعالى ؛ ونظير ذلك في الجنة قوله تعالى :﴿عرضها السموات والأرض﴾ (آل عمران : ١٣٣)
وأمّا الطول فلا يعلمه إلا الله عز وجلّ، لكن قال القرطبي : وفي الخبر عن النبيّ ﷺ أنه قال :"ظواهرها نور يتلألأ". وقيل : الظهائر من السندس. وعن الحس البطائن : هي الظواهر وهو قول الفراء. وروي عن قتادة : والعرب تقول للبطن ظهر فيقولون : هذا بطن السماء وظهر الأرض. وقال الفراء : قد تكون البطانة الظهارة والظهارة البطانة لأنّ كل واحد منهما يكون وجهاً، والعرب تقول هذا ظهر السماء وهذا بطن السماء لظاهرها الذي نراه وأنكر ابن قتيبة وغيره هذا، وقالوا : لا يكون هذا إلا في الوجهين المتساويين إذا ولي كلّ واحد منهما قوم كالحائط بينك وبين قوم وعلى أديم السماء ؛ وقال ابن عباس : وصف البطائن وترك الظواهر لأنه ليس في الأرض أحد يعرف ماء الظواهر.
تنبيه : قال الرازي : الاستبرق معرب وهو الديباج الثخين ؛ أي : وهذا ومثله لا يخرج القرآن عن كونه عربياً لأن العربي ما نطقت به العرب وضعاً واستعمالاً من لغة غيرها، وذلك كله سهل عليهم وبه يحصل الإعجاز بخلاف ما لم يستعملوه من كلام العجم لصعوبته عليهم، وذكر الاتكاء لأنه حال الصحيح الفارغ القلب المتنعم البدن بخلاف المريض والمهموم.
﴿وجنى الجنتين﴾ أي : ثمرها ﴿دان﴾ أي : قريب ؛ قال ابن عباس : تدنو الشجرة حتى يجنيها وليّ الله تعالى إن شاء قائماً، وإن شاء قاعداً وإن شاء مضطجعاً، وقال قتادة : لا يردّ يده بُعْد ولا شوك.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٧٣