ثم وصف الجنتين أيضاً بقوله تعالى :﴿فيهما فاكهة﴾ وخص أشرفها وأكثرها وجداناً في الخريف والشتاء، كما في جنان الدنيا التي جعلت مثالاً لهاتين بقوله تعالى :﴿ونخل ورمان﴾ فإن كلاً منهما فاكهة وأدام، فلهذا خصا تشريفاً وتنبيهاً على ما فيهما من التفكه، وأولهما أعمّ نفعاً، وأعجب خلقاً، ولذا قدمه فعطفهما على الفاكهة من باب ذكر الخاص بعد العامّ تفضيلاً له ؛ كقوله تعالى :﴿وملائكته ورسله وجبريل وميكال﴾ (البقرة : ٩٨)
وقوله تعالى :﴿حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى﴾ (البقرة : ٢٣٨)
١٧٩
وقال بعض العلماء : ليس ذلك من الفاكهة. ولهذا قال أبو حنيفة : إذا حلف لا يأكل الفاكهة فأكل رطباً أو رماناً لم يحنث، وخالفه صاحباه. وقال القرطبي : وقيل : إنما كررها لأنّ النخل والرمان كانا عندهم في ذلك الوقت بمنزلة البر عندنا، لأن النخل عامة قوتهم، والرمان كالثمرات فكان يكثر غرسها عندهم لحاجتهم إليه، وكانت الفواكه عندهم من ألوان الثمار التي يعجبون بها فإنما ذكر الفاكهة ثم ذكر النخل والرمان لعمومها وكثرتها عندهم من المدينة إلى مكة إلى ما والاها من أرض اليمن فأخرجهما من الذكر من الفواكه وأفرد الفواكه على حدتها.
وقيل : أفردا بالذكر لأنّ النخل ثمره فاكهة وطعام، والرمان فاكهة ودواء فلم يخلصا للتفكه قال البغوي : وعن ابن عباس قال : نخل الجنة جذوعهما زمرّد أخضر وورقها ذهب أحمر، وسعفها كسوة أهل الجنة منها مقطعاتهم وحللهم وثمرها أمثال القلال، والدلاء أشدّ بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، وألين من الزبد ليس له عجم.
وروي أنّ الرمانة من رمان الجنة ملء جلد البعير المقتب ؛ وقيل : إنّ نخل الجنة نضيد، وثمرها كالقلال كلما نزعت عادت مكانها أخرى ؛ العنقود منها اثنا عشر ذراعاً.
﴿فبأي آلاء﴾ أي نعم ﴿ربكما﴾ المحسن إلى الثقلين بجليل التربية ﴿تكذبان﴾ أبتلك النعم أم بغيرها مما أحسن به إليكم ؟
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٧٨
فيهنّ﴾
أي : الجنان الأربع، أو الجنتين وقصورهما ﴿خيرات حسان﴾ أي : نساء الواحدة خيرة على معنى ذوات خير، وقيل : خيرات بمعنى خيرات فخفف كهين ولين.
روى الحسن عن أمّه عن أم سلمة : قالت :"قلت لرسول الله ﷺ يا رسول الله أخبرني عن قوله تعالى :﴿خيرات حسان﴾ ؛ قال : خيرات الأخلاق حسان الوجوه". وقال أبو صالح : لأنهنّ عذارى أبكار ؛ قال الحكيم الترمذي : فالخيرة ما اختارهنّ الله تعالى فأبدع خلقهنّ باختياره، فاختيار الله تعالى لا يشبهه اختيار الآدميين، فوصفهنّ بالحسن فإذا وصف الله تبارك وتعالى خالق الحسن شيئاً بالحسن فانظر ما هناك وقال الرازي : في باطنهنّ الخير وفي ظاهرهنّ الحسن.
﴿فبأي آلاء﴾ أي : نعم ﴿ربكما﴾ أي : الكامل الإحسان إليكما ﴿تكذبان﴾ أبنعمة ما جعل لكم من الفواكه أم غيرها ؟
ثم زاد في وصفهنّ بقوله تعالى :﴿حور﴾ جمع حوراء وهي الشديدة سواد العين الشديدة بياضها ﴿مقصورات﴾ والمقصورات المحبوسات المستورات ﴿في الخيام﴾ وهي الحجال، فلسن بالطوّافات في الطرق ؛ قاله ابن عباس، والنساء تمدح بملازمتهنّ البيوت كما قال قيس بن الأسلت :
*وتكسل عن جيرانها فيزرنها ** وتعتل من إتيانهنّ فتعذر*
ويقال امرأة مقصورة وقصيرة وقصورة بمعنى واحد، قال كثير عزة :
١٨٠
*وأنت التي حببت كلّ قصيرة ** إليّ ولم يعلم بذاك القصائر*
*عنيت قصيرات الحجال ولم أرد ** قصار الخطا شر النساء البحاتر*
والخيام : جمع خيمة، وهي : أربعة أعواد تنصب وتسقف بشيء من نبات الأرض، وجمعها خيم، كتمرة وتمر، وتجمع الخيم على خيام فهو جمع الجمع ؛ وأمّا ما يتخذ من شعر أو وبر أو نحوه فيقال له : خباء، وقد يطلق عليه خيمة تجوّزاً. وقال عمر : الخيمة درة مجوّفة. وقاله ابن عباس قال : وهي فرسخ في فرسخ لها أربعة آلاف مصراع من ذهب. وفي الحديث :"أنّ في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة عرضها : ستون ميلاً ؛ في كل زاوية منها أهل ما يرون الآخرين يطوف عليهم المؤمنون". وقال أبو عبد الله الحكيم الترمذي : قال : بلغنا أن سحابة أمطرت من العرش فخلقن أي : الحور العين من قطرات الرحمة، ثم ضرب على كل واحدة خيمة على شاطىء الأنهار سعتها أربعون ميلاً وليس لها باب، حتى إذا دخل وليّ الله تعالى بالخيمة انصدعت الخيمة عن باب ليعلم وليّ الله أنّ أبصار المخلوقين من الملائكة والخدم لم تأخذها، فهي مقصورة قد قصرها الله عن أبصار المخلوقين. وقال مجاهد : معناه قصرن أطرافهنّ وأنفسهنّ على أزواجهنّ فلا يبغين بدلاً. وقال ﷺ "لو أنّ امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت على أهل الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأت ما بينهما ريحاً، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها".
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٧٨


الصفحة التالية
Icon