ولما ذكر تعالى القسمين وكان كل منهما قسمين ذكر أعلى أهل القسم الأوّل ترغيباً في حسن حالهم ولم يقسم أهل المشأمة ترهيباً في سوء حالهم فقال تعالى :﴿والسابقون﴾ أي : إلى أعمال الطاعة مبتدأ وقوله تعالى :﴿السابقون﴾ تأكيد عن المهدوي أنّ النبيّ ﷺ قال :"السابقون الذين إذا أعطوا الحق قبلوه، وإذا سُئِلوه بذلوه وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم". وقال محمد بن كعب القرظي : هم الأنبياء عليهم السلام، وقال الحسن وقتادة : السابقون إلى الإيمان من كل أمّة ؛ وقال محمد بن سيرين : هم الذين صلوا إلى القبلتين قال تعالى :﴿والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار﴾ (التوبة : ١٠٠)
وقال مجاهد والضحاك : هم السابقون إلى الجهاد وأوّل الناس رواحاً إلى الصلاة ؛ وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه : هم السابقون إلى الصلوات الخمس ؛ وقال سعيد بن جبير : إلى التوبة وأعمال البرّ، قال تعالى :﴿وسارعوا إلى مغفرة من ربكم﴾ (آل عمران : ١٣٣)
﴿ثم أثنى عليهم فقال تعالى أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون﴾ (المؤمنون : ٦١)
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : هم أربعة : منهم سابق أمّة موسى عليه السلام وهو حز قيل مؤمن آل فرعون، وسابق أمّة عيسى عليه السلام وهو حبيب النجار صاحب أنطاكية، وسابقا أمة محمد ﷺ وهما : أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. وقال سميط بن عجلان : الناس ثلاثة : رجل ابتكر الخير في حداثة سنه ثم داوم عليه حتى خرج من الدنيا فهذا هو السابق المقرب، ورجل ابتكر عمره بالذنوب ثم طول الغفلة ثم رجع بتوبته حتى ختم له بها فهذا من أصحاب اليمين، ورجل ابتكر عمره بالذنوب ثم لم يزل عليها حتى ختم له بها فهذا من أصحاب الشمال. وروي عن كعب قال : هم أهل القرآن المتوجون يوم القيامة، وقيل : هم أوّل الناس رواحاً إلى المسجد وأولهم خروجاً في سبيل الله.
وخبر المبتدأ ﴿أولئك﴾ أي : العالو الرتبة جداً ﴿المقرّبون﴾ أي : الذين قربت درجاتهم في الجنة من العرش وأعليت مراتبهم واصطفاهم الله تعالى للسبق، فأرادهم لقربه ولولا فضله في تقريبهم لم يكونوا سابقين ؛ قال الرازي في اللوامع : المقرّبون تخلصوا من نفوسهم وأعمالهم كلها الله تعالى ديناً ودنيا من حق الله تعالى، وحق الناس وكلاهما عندهم حق الله تعالى، والدنيا عندهم آخرتهم لأنهم يراقبون ما يبدو لهم من ملكوته فيتلقونه بالرضا والإنقياد، وهم صنفان : صنف قلوبهم في جلاله وعظمته هائمة قد ملكتهم هيبته فالحق يستعملهم في وصف آخر قد أرخى من عنانه والأمر عليه أسهل لأنه قد جاوز بقلبه هذه الخطة، ومحله أعلى فهو أمين الله تعالى في أرضه فيكون عليه أوسع ا. ه.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٨٤
ثم بين تقريبه لهم بقوله تعالى :﴿في جنات النعيم﴾ أي : الذي لا كدر فيه بوجه ولا منغص ولما ذكر السابقين فصلهم بقوله تعالى :﴿ثلة﴾ أي : جماعة وقيدها الزمخشري بالكثيرة وأنشد :
١٨٧
*وجاءت إليهم ثلة خندفية ** تجيش كتيار من السيل مزبد*
قال ابن عادل : ولم يقيدها غيره بل صرّح بأنها الجماعة ؛ قلت : أو كثرت ثم قال : والكثرة التي فهمها الزمخشري قد تكون من السياق ا. ه. لكن قال البغوي : والثلة جماعة غير محصورة العدد ﴿من الأولين﴾ أي : من الأمم السابقة من لدن آدم إلى محمد ﷺ من النبيين عليهم السلام ومن آمن بهم ﴿وقليل من الآخرين﴾ وهم من آمن بمحمد ﷺ فقد كان الأنبياء عليهم السلام مئة ألف ونيفاً وعشرين ألفاً، وكان من خرج مع موسى عليه السلام من مصر وهو مؤمن به من الرجال المقاتلين ممن هو فوق العشرين ودون الثمانين ست مئة ألف، فما ظنك بمن عداهم من الشيوخ ومن دون العشرين من البالغين الصبيان ومن النساء، فكيف بمن عداه من سائر النبيين عليهم السلام المجدّدين من بني إسرائيل وغيرهم. قال البيضاوي : ولا يخالف ذلك قوله عليه الصلاة والسلام :"أمتي يكثرون سائر الأمم". لجواز أن يكون سابقو سائر الأمم أكثر من سابقي هذه الأمة، وتابعوا هذه الأمّة أكثر من تابعيهم.


الصفحة التالية
Icon