﴿ولقد علمتم النشأة الأولى﴾ أي : الترابية لأبيكم آدم عليه السلام، واللحمية لأمكم حواء رضى الله عنها والنطفية لكم وكل منها تحويل من شيء إلى آخر غيره، فما الذي شاهدتم قدرته على ذلك لا يقدر على تحويلكم بعد أن تصيروا تراباً إلى ما كنتم عليه أولاً من الصور ولهذا سبب عما تقدم قوله تعالى :﴿فلولا﴾ أي : فهلا ولم لا ﴿تذكرون﴾ أي تذكراً عظيماً تكرهون أنفسكم عليه فتعلمون أن من قدر على النشأة الأولى قدر على الثانية فإنها أقل ضعفاً لحصول المواد وتخصيص الأجزاء وسبق المثال وفيه دليل على صحة القياس، وفي الخبر عجباً كل العجب للمكذب بالنشأة الآخرة وهو يرى النشأة الأولى، وعجباً للمصدق بالنشأة الآخرة وهو يسعى لدار الغرور ؛ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو النشأة بفتح الشين وبعدها ألف قبل الهمزة والباقون بسكونها ولا ألف بعدها، فإذا وقف حمزة نقل حركة الهمزة إلى الشين وخفف ذال تذكرون حمزة والكسائي وحفص، وشدّدها الباقون.
ثم ذكر لهم حجة أخرى بقوله تعالى :﴿أفرأيتم﴾ أي : أخبروني هل رأيتم بالبصر والبصيرة ما نبهنا كم عليه فيما تقدم فتسبب عن تنبيهكم لذلك أنكم رأيتم ﴿ما تحرثون﴾ أي : تجددون حرثه على الاستمرار من أراضيكم فتطرحون فيه البذر ﴿أأنتم تزرعونه﴾ أي : تنشئونه بعد طرحكم وتجعلونه زرعاً فيكون فيه السنبل والحب ﴿أم نحن﴾ خاصة ﴿الزارعون﴾ أي : المنبتون له والحافظون ؛ روى أنه عليه الصلاة والسلام قال :"لا يقولنّ أحدكم زرعت وليقل حرثت". قال أبو هريرة أرأيتم إلى قوله تعالى :﴿أفرأيتم﴾ الآية.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٠٠
ولما كان الجواب قطعاً أنت الفعال لذلك وحدك قال تعالى موضحاً لأنه ما زرعه غيره ﴿لو نشاء﴾ أي : لو عاملناكم بصفة العظمة ﴿لجعلناه﴾ أي : بتلك العظمة ﴿حطاما﴾ أي : مكسوراً مفتتاً لا حب فيه قبل النبات حتى لا يقبل الخروج أو بعده ببرد مفرط أو حر مهل أو غير ذلك فلا ينتفع به ﴿فظلتم﴾ أي فأقمتم بسبب ذلك نهاراً في وقت الأشغال العظيمة وتركتم ما يهمكم ﴿تفكهون﴾ حذفت منه إحدى التائين في الأصل تخفيفاً أي تتعجبون مما نزل بكم في زرعكم وقيل : تندمون على ما سلف منكم من المعاصي التي أوجبت تلك العقوبة قال الزمخشري : ومنه الحديث :"مثل العالم كمثل الحمة يأتيها البعداء ويتركها القرباء فبينما هم إذ غار ماؤها فانتفع بها قوم وبقي قوم يتفكهون". أي : يتندمون. وقال الكسائي : التفكة التلهف على ما فات من الأضداد، تقول
٢٠٠
العرب : تفكهت أي تنعمت وتفكهت أي حزنت وتقولون :﴿أنا لمغرمون﴾ بحذف القول ومعنى الغرم ذهاب المال بغير عوض من الغرام وهو الهلاك ومن مجيء الغرام بمعنى الهلاك قول القائل :
*أن يعذب يكن غراماً وإن يع ** ط جزيلاً فإنه لا يبالي*
وقال ابن عباس : الغرام العذاب، أي : عذبوا بذهاب أموالهم، والمعنى : أن غرمنا الحب الذي بذرناه فذهب بغير عوض ومن الغرام بمعنى العذاب قول القائل :
*وثقت بأنّ الحلم منك سجية
** وأنّ فؤادي مبتلى بك مغرم
وقرأ شعبة : أئنا بهمزة مفتوحة بعدها همزة مكسورة على الاستفهام والباقون بهمزة واحدة مكسورة على الخبر ﴿بل نحن﴾ أي : خاصة ﴿محرومون﴾ أي : ممنوعون رزقنا حرمنا من لا يرد قضاؤه فلاحظ لنا في الاكتساب فلو كان الزارع ممن له خط لأفلح زرعه ثم ذكر تعالى لهم حجة أخرى بقوله تعالى :﴿أفرأيتم الماء﴾ أي : أخبروني هل رأيتم بالبصر
٢٠١
والبصيرة ما نبهنا عليه فيما مضى من المطعم وغيره فرأيتم الماء ﴿الذي تشربون﴾ فتحيوا به أنفسكم وتسكنوا به عطشكم، ذكرهم بنعمه التي أنعم بها عليهم بإنزال المطر الذي لا يقدر عليه أحد إلا الله عز وجل ﴿أأنتم أنزلتموه من المزن﴾ أي : السحاب وهو اسم جنس واحد مزنة قال القائل :
*فلا مزنة ودقت ودقها
** ولا أرض أبقل إبقالها
وعن ابن عباس والثوري : المزن السماء والسحاب، وقال أبو زيد : المزنة : السحابة البيضاء أي خاصة وهي أعذب ماء والجمع مزن والمزنة المطرة ﴿أم نحن﴾ أي : خاصة ﴿المنزلون﴾ أي : له بمالنا من العظمة ﴿لو نشاء﴾ أي : حال إنزاله وبعده قبل أن ينتفع به ﴿جعلناه﴾ أي بما تقتضيه صفة العظمة ﴿أجاجاً﴾ أي : ملحاً مراً محرقاً كأنه في الأحشاء لهيب النار المؤجج فلا يبرد عطشاً ولا ينبت نبتاً ينتفع به، وقال ابن عادل : الأجاج المالح الشديد الملوحة ﴿فلولا﴾ أي : فهلا ولم لا ﴿تشكرون﴾ أي : تجددون الشكر على سبيل الاستمرار باستعمال ما أفادكم ذلك من القوى في طاعة الله الذي أوجده لكم ومكنكم منه.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٠٠