واختلف أيضاً في معنى قوله عز وجلّ :﴿بمواقع النجوم﴾ فقال أكثر المفسرين : بمساقطها لغروبها، قال الزمخشري : ولعل الله تعالى في آخر الليل إذا انحطت النجوم إلى المغرب أفعالاً عظيمة مخصوصة وللملائكة عبادات موصوفة، أو لأنه وقت قيام المجتهدين والمبتهلين إليه من عباده الصالحين ونزول الرحمة والرضوان عليهم، فلذلك أقسم بمواقعها واستعظم ذلك بقوله تعالى :﴿وإنه لقسم لو تعلمون عظيم﴾ وقال عطاء بن رباح : أراد بمواقعها منازلها، قال الزمخشري : وله في ذلك من الدليل على عظيم القدرة والحكمة ما لا يحيط به الوصف، وقال الحسن : مواقعها انكدارها وانتثارها يوم القيامة ؛ وقال ابن عباس والسدي : المراد نجوم القرآن أي أوقات نزولها ؛ وقال الضحاك : هي الأنواء التي كانت الجاهلية تقول إذا مطروا : مطرنا بنوء كذا، وقال القشيري : هو قسم ولله أن يقسم بما يريد وليس لنا أن نقسم بغير الله تعالى وصفاته القديمة فإن قيل لو تعلمون جوابه ماذا ؟
أجيب : بأنه مقدّر تقديره لعظمتموه أي : لو كنتم من ذوي العلم لعلمتم عظم هذا القسم ولكنكم ما علمتموه فعلم أنكم لا تعلمون، وقرأ بموقع حمزة والكسائي بسكون الواو ولا ألف بعدها والباقون بفتح الواو ألف بعدها.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٠٠
وقوله تعالى :﴿إنه﴾ أي : القرآن الذي أفهمته النجوم بعموم إفهامها ﴿لقرآن﴾ أي : جامع سهل ذو أنواع جليلة ﴿كريم﴾ أي : بالغ الكرم منزه عن كل شائبة لؤم ودناءة هو المقسم عليه، وفي الكلام اعتراضان أحدهما : الاعتراض بقوله تعالى :﴿وإنه لقسم﴾ بين القسم والمقسم عليه، والثاني الاعتراض بقوله تعالى :﴿لو تعلمون﴾ بين الصفة الموصوف.
تنبيه : من كرم هذا القرآن العظيم كونه من الملك الأعلى إلى خير الخلق بسفارة روح القدس، مشتملاً على أصول العلوم المهمة في إصلاح المعاش والمعاد وبلسان العرب الذين اتفقت علماء الفرق على أنّ لسانهم أفصح الألسن، وعلى وجه أعجز العرب كافة وبقية الخلق أجمعين واختلف في معنى قوله تعالى :﴿في كتاب﴾ أي : مكتوب ﴿مكنون﴾ أي : مصون فالذي عليه الأكثر أنه المصحف سمي قرآنا لقرب الجوار على الاتساع ولأنّ النبي ﷺ "نهى أن يسافر
٢٠٣
بالقرآن إلى أرض العدوّ". أراد به المصحف وقوله تعالى :﴿لا يمسه﴾ خبر بمعنى النهي ولو كان باقياً على خبرتيه لزم منه الخلف لأنّ غير المطهر يمسه وخبر الله تعالى لا يقع فيه خلف لأنّ المراد بقوله تعالى :﴿إلا المطهرون﴾ لا المحدثون وهو قول عطاء وطاوس وسالم والقاسم وأكثر أهل العلم وبه قال مالك والشافعي رضى الله عنهما ؛ وقال ابن عادل : والصحيح أنّ المراد بالكتاب : المصحف الذي بأيدينا لما روى مالك وغيره أن كتاب عمرو بن حزم "لا يمس القرآن إلا طاهر"، وقال ابن عمر قال النبيّ ﷺ "لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر" وقالت أخت عمر لعمر عند إسلامه وقد دخل عليها ودعا بالمصحف ﴿لا يمسه إلا المطهرون﴾ فقام فاغتسل وأسلم، وعلى هذا قال قتادة وغيره معناه لا يمسه إلا المطهرون من الأحداث والأنجاس انتهى.
وقال ابن عباس :﴿مكنون﴾ محفوظ عن الباطل والكتاب هنا كتاب في السماء، وقال جابر : هو اللوح المحفوظ، أي : لقوله تعالى :﴿بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ﴾ (البروج : ٢١ ـ ٢٢)
وقال عكرمة : التوراة والإنجيل فيهما ذكر القرآن، وقال السدي : الزبور وقيل : لا من "لا يمسه" نافية والضمة في لا يمسه ضمة إعراب وعلى هذا ففي الجملة وجهان : أحدهما : أن محلها الجرّ صفة لكتاب، والمراد به : إمّا اللوح المحفوظ والمطهرون حينئذ الملائكة، أو المراد به المصحف والمراد بالمطهرون الملائكة كلهم، والثاني : محلها رفع صفة لقرآن والمراد بالمطهرين : الملائكة فقط أي : لا يطلع عليه، لأنّ نسبة المس إلى المعاني متعذرة وقيل : إنها ناهية والفعل بعدها مجزوم لأنه لوفك عن الإدغام لظهر ذلك فيه كقوله تعالى :﴿لم يمسسهم سوء﴾ (آل عمران : ١٧٤)
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٠٠
ولكنه أدغم، ولما أدغم حرّك بالضم لأجل هاء ضمير المذكر الغائب، وفي الحديث :"إنا لم نرده عليكما إلا أنا حرم" بضم الدال، وإن كان القياس يقتضي جواز فتحها تخفيفاً، وبهذا ظهر فساد رد من رد بأنّ هذا لو كان نهياً كان يقال لا يمسه بالفتح لأنه خفي عليه وانضم ما قبل الهاء في هذا التحويل لا يجوّز سيبويه غيره.
واختلفوا في المس المذكور في الآية فقال أنس وسعيد بن جبير : لا يمس ذلك إلا المطهرون من الذنوب وهم الملائكة وقال أبو العالية وابن زيد : هم الذين طهروا من الذنوب كالرسل من الملائكة والرسل من بني آدم، وقال الكلبي : هم السفرة الكرام البررة وهذا كله قول واحد وهو اختيار مالك، وقال الحسن : هم الملائكة الموصوفون في سورة عبس في قوله تعالى :﴿صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة﴾ (عبس : ١٣ ـ ١٦)


الصفحة التالية
Icon