وقرأ أبو عمرو : بضم الهمزة وكسر الخاء ورفع القاف على البناء للمفعول ليكون المعنى : من أيّ أخذ كان من غير نظر إلى معين وقرأ الباقون بفتح الهمزة والخاء ونصب القاف على البناء للفاعل والآخذ هو الله القادر على كل شيء العالم بكل شيء، والحاصل : أنهم نقضوا الميثاق في الإيمان فلم يؤاخذهم حتى أرسل الرسل ﴿إن كنتم مؤمنين﴾ أي : مريدين الإيمان فبادروا إليه ﴿هو﴾ أي : لا غيره ﴿الذي ينزل﴾ أي : على سبيل التدريج والموالاة بحسب الحاجة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون وتخفيف الزاي، والباقون بفتح النون وتشديد الزاي ﴿على عبده﴾ الذي هو أحق الناس بحضرة جماله وإكرامه وهو محمد ﷺ ﴿آيات﴾ أي : علامات هي من ظهورها حقيقة أن يرجع إليها ويتعبد بها ﴿بينات﴾ أي : واضحات وهي آيات القرآن الكريم ﴿ليخرجكم﴾ أي : الله بالقرآن أو عبده بالدعوة ﴿من الظلمات﴾ التي أنتم منغمسون فيها من الحظوظ والنقائص التي جبل عليها الإنسان والغفلة الكاملة على تراكم الجهل، فمن آتاه الله تعالى العلم والإيمان فقد أخرجه من هذه الظلمات التي طرأت عليه ﴿إلى النور﴾ الذي كان له وصفاً لروحه وفطرته الأولى السليمة ﴿وإن الله﴾ أي : الذي له صفات الكمال ﴿بكم لرؤوف رحيم﴾ أي : حيث نبهكم بالرسل والآيات ولم يقتصر على ما نصب لكم من الحجج العقلية، وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة والكسائي بقصر الهمزة، والباقون بالمدّ، وورش على أصله بالمدّ والتوسط والقصر، وليس قصره كقصر أبي عمرو ومن معه وإنما قصره كمدّ قالون ومن وافقه ﴿وما﴾ أي : وأي شيء يحصل ﴿لكم﴾ في ﴿أن لا تنفقوا﴾ أي : توجدوا الإنفاق للمال ﴿في سبيل الله﴾ أي : في كل ما يرضى الملك الأعظم الذي له صفات الكمال ليكون لكم به وصلة فيخصكم بالرأفة التي هي أعظم الرحمة، فإنه ما يبخل أحد عن وجه خير إلا سلط الله عليه غرامة في وجه شرّ ﴿ولله﴾ أي : الذي له صفات الكمال لا سيما صفة الإرث المقتضية للزهد في الموروث ﴿ميراث السموات والأرض﴾ أي : يرث كل شيء فيهما فلا يبقى لأحد مال فمن تأمّل أنه
٢١٣
زائل هو وكل ما في يده والموت من ورائه وطوارق الحوادث مطبقة به وعما قليل ينقل ما في يده إلى غيره هان عليه الجود بنفسه وماله
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢١٢
ثم بين تعالى التفاوت بين المنفقين منهم فقال تعالى :﴿لا يستوي منكم من أنفق﴾ أي : أوجد الإنفاق في ماله وجميع قواه وما يقدر عليه ﴿من قبل الفتح﴾ أي : الذي هو فتح جميع الدنيا في الحقيقة وهو فتح مكة الذي كان سبباً لظهور الدين الحق ﴿وقاتل﴾ سعياً في إنفاق نفسه لمن آمن به قبل الإسلام وقوة أهله ودخول الناس في دين الله أفواجاً وقله الحاجة إلى القتال والنفقة فيه ومن أنفق من بعد الفتح، فحذف لوضوحه ودلالة ما بعده عليه، وفضل الأوّل لما ناله إذ ذاك بالإنفاق من كثرة المشاق لضيق المال حينئذ، وفي هذا دليل على فضل أبي بكر فإنه أوّل من أنفق لم يسبقه في ذلك أحد، وخاصم الكفار حتى ضرب ضرباً شديداً أشرف منه على الهلاك، روى محمد بن فضيل عن الكلبي : أنّ هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضى الله عنه، وعن ابن عمر قال :"كنت عند رسول الله ﷺ وعنده أبو بكر الصديق عليه عباءة قد خلها في صدره بخلال فنزل عليه جبريل عليه السلام فقال : مالي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلها بخلال ؟
فقال : أنفق ماله عليّ قبل الفتح قال : فإنّ الله عز وجل يقول : اقرأ عليه السلام وقل له : أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط ؟
فقال أبو بكر : أسخط على ربي إني عن ربي راض" ﴿أولئك﴾ أي : المنفقون المقاتلون وهم السابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار الذين قال فيهم النبيّ ﷺ "لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلع مدّ أحدهم ولا نصيفه" لمبادرتهم إلى الجود بالنفس والمال ﴿أعظم درجة﴾ وتعظيم الدرجة يكون لعظم صاحبها ﴿من الذين أنفقوا من بعد﴾ أي : من بعد الفتح ﴿وقاتلوا﴾ أي : من بعد الفتح ﴿وكلا﴾ أي : وكل واحد من الفريقين ﴿وعد الله﴾ أي : الذي له الجلال والإكرام ﴿الحسنى﴾ أي : المثوبة الحسنى وهي : الجنة مع تفاوت الدرجات، وقرأ ابن عامر : برفع اللام على الابتداء أي : وكل وعده ليطابق ما عطف عليه والباقون بنصبها أي : وعد كلا ﴿والله﴾ أي : الذي له الإحاطة الكاملة بجميع صفات الكمال ﴿بما تعملون﴾ أي : تجدّدون عمله على الأوقات ﴿خبير﴾ أي : عالم بباطنه وظاهره علماً لا مزيد عليه بوجه فهو يجعل جزاء الأعمال على قدر النيات التي هي أرواح صورها.
تنبيه : التقدم والتأخر قد يكون في أحكام الدين وقد يكون في أحكام الدنيا فأمّا التقدّم في أحكام الدين فقالت عائشة "أمرنا رسول الله ﷺ أن ننزل الناس منازلهم وأعظم المنازل مرتبة الصلاة" وقد قال ﷺ في مرضه :"مروا أبا بكر فليصل بالناس" وقال :"يؤم القوم أقرؤهم
٢١٤