﴿اعلموا أن الله﴾ أي : الملك الأعظم الذي له الكمال كله فلا يعجزه شيء ﴿يحيي﴾ أي : على سبيل التجديد والاستمرار كما تشاهدونه ﴿الأرض﴾ أي : بالنبات ﴿بعد موتها﴾ أي : يبسها تمثيل لإحياء الأموات بجميع أجسادهم وإفاضة الأرواح عليها كما فعل بالنبات وكما فعل بالأجسام أول مرة، ولإحياء القلوب القاسية بالذكر والتلاوة فاحذروا سطوته واخشوا غضبه وارجوا رحمته، لإحياء القلوب فإنه قادر على إحيائها بروح الوحي كما أحيا الأرض بروح الماء لتصير بأحيائها بالذكر خاشعة بعد قسوتها كما صارت الأرض رابية بعد خشوعها وموتها.
ولما انكشف الأمر بهذه غاية الانكشاف أنتج قوله تعالى :﴿قد بينا﴾ أي : على مالنا من العظمة ﴿لكم الآيات﴾ أي : العلامات النيرات ﴿لعلكم تعقلون﴾ أي : لتكونوا عند من يعلم ذلك ويمنعه من الخلائق على رجاء من حصول العقل لكم بما يتجدد لكم من فهمه على سبيل التواصل الدائم بالاستمرار
وقرأ :﴿إن المصدقين﴾ أي : العريقين في هذا الوصف من الرجال ﴿والمصدقات﴾ أي : من النساء، ابن كثير وشعبة بتخفيف الصاد فيهما من التصديق بالإيمان والباقون بالتشديد فيهما من التصدق أدغمت التاء في الصاد أي : الذين تصدقوا وقوله تعالى :﴿وأقرضوا الله﴾ أي : الذي له الكمال كله عطف على معنى الفعل في المصدقين لأنّ اللام بمعنى الذين واسم الفاعل بمعنى أصدقوا كأنه قيل : إنّ الذين أصدقوا وأقرضوا الله ﴿قرضاً حسناً﴾ أي : بغاية ما يكون من طيب
٢١٩
النفس وإخلاص النية والنفقة في سبيل الخير وحسنه ؛ كما قال الرازي : أن يصرف بصره عن النظر إلى فعله والنفقة وإلا متنا به وطلب العوض عليه ﴿يضاعف﴾ أي : ذلك القرض ﴿لهم﴾ من عشرة إلى سبعمائة كما مرّ لأنّ الذي كان له العرض كريم، وقرأ ابن كثير وابن عامر : بتشديد العين ولا ألف بينها وبين الضاد ؛ والباقون بتخفيف العين وبينها وبين الضاد ألف ﴿ولهم﴾ أي : مع المضاعفة ﴿أجر كريم﴾ أي : ثواب حسن وهو الجنة والنظر إلى وجهه الكريم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢١٩
ثم بين سبحانه وتعالى الحامل على الصدقة ترغيباً فيه وهو الإيمان فقال تعالى :﴿والذين آمنوا﴾ أي : أوجدوا هذه الحقيقة العظيمة في أنفسهم ﴿بالله﴾ أي : الملك الأعلى الذي له الجلال والإكرام ﴿ورسله﴾ أي : كلهم لأجل ما لهم من النسبة إليه فمن كذب واحد منهم لم يكن مؤمناً بالله تعالى :﴿أولئك﴾ أي : هؤلاء العالو الرتبة ﴿هم الصديقون﴾ أي : الذين هم في غاية الصدق والتصديق لما يحق له أن يصدقه من سمعه ؛ وقال القشيري الصديق من استوى ظاهره وباطنه ؛ ويقال : هو الذي يحمل الأمر على الأشق ولا ينزل إلى الرخص ولا يجنح للتأويلات ؛ وقال مجاهد : كل من آمن بالله تعالى ورسله عليهم السلام فهو صدّيق وتلا هذه الآية ؛ وقال الضحاك : الآية خاصة في ثمانية نفر من هذه الأمة سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام أبو بكر وعلي وزيد وعثمان وطلحة والزبير وسعد وحمزة وتاسعهم عمر بن الخطاب رضى الله عنهم ألحقه الله تعالى بهم لما عرف من صدق نبيه ﷺ وعلى آله، واختلف في نظم قوله تعالى :﴿والشهداء عند ربهم﴾ أي : المحسن إليهم بالتربية لمثل تلك الرتبة العالية فمنهم من قال : هي متصلة بما قبلها والواو للنسق وأراد بالشهداء المؤمنين المخلصين، وقال الضحاك : هم التسعة الذين سميناهم رضي الله عنهم ؛ وقال مجاهد : كل مؤمن صدّيق وشهيد وتلا هذه الآية، وقال قوم : تم الكلام عند قوله تعالى :﴿هم الصديقون﴾ ثم ابتدأ بقوله تعالى :﴿والشهداء﴾ فهو مبتدأ وخبره ﴿لهم أجرهم﴾ أي : جعله ربهم لهم ﴿ونورهم﴾ أي : الذي زادهموه من فضله برحمته قالوا : والواو للاستئناف وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما ومسروق وجماعة ؛ ثم اختلفوا فيهم فمنهم من قال : هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين يشهدون على الأمم يروى ذلك عن ابن عباس رضى الله عنهما وهو قول مقاتل بن حيان، وقال مقاتل بن سليمان : هم الذين استشهدوا في سبيل الله عز وجل.
ولما ذكر تعالى أهل السعادة جعلنا الله تعالى ووالدينا ومحبينا منهم جامعاً لأصنافهم أتبعهم أهل الشقاوة لذلك بقوله تعالى :﴿والذين كفروا﴾ أي : ستروا ما دلت عليه الأدلة ﴿وكذبوا بآياتنا﴾ أي : على مالها من العظمة بنسبتها إلينا ﴿أولئك﴾ أي : هؤلاء البعداء من كل خير ﴿أصحاب الجحيم﴾ أي : النار التي هي غاية في توقدها وفي ذلك دليل على أنّ الخلود في النار مخصوص بالكفار من حيث أن التركيب يشعر بالاختصاص، والصحبة تدل على الملازمة عرفاً، وأما غيرهم من العصاة فدخولهم فيها ليس على وجه الصحبة الدالة على الملازمة.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢١٩