ولقد عزى الله تعالى المؤمنين رحمة بهم في مصائبهم وزهدهم في رغائبهم بأن أسفهم على فوت المطلوب لا يعيده، وفرحهم بحصول المحبوب لا يفيده، وبأن ذلك لا مطمع في بقائه إلا بإدخاره عند الله تعالى وذلك بأن يقول : المصيبة قدر الله تعالى وما شاء فعل ويصبر ؛ وفي النعمة هكذا قضى وما أدري مآله هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر فلا يزال خائفاً عند النعمة قائلاً في الحالين ما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن، وأكمل من هذا أن يكون مسروراً بذكر ربه في كلتا الحالتين، وقيمة الرجال إنما تعرف بالواردات المغيرة فمن لم يتغير بالمضار ولم يتأثر بالمسار فهو سيد وقته كما أشار إليه القشيري ؛ وقال ابن عباس رضي الله عنهما : ليس من أحد إلا وهو يحزن ويفرح ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبراً وغنيمته شكراً والحزن والفرح المنهي عنهما
٢٢٣
هما اللذان تتعدى فيهما إلى ما لا يجوز ﴿والله﴾ أي : الذي له صفات الكمال ﴿لا يحب﴾ أي : لا يفعل فعل المحب بأن يكرم ﴿كل مختال﴾ أي : متكبر نظراً إلى ما في يده من الدنيا ﴿فخور﴾ أي : به على الناس قال القشيري : الاختيال من بقايا النفس ورؤيتها، والفخر من رؤية خطر ما به يفتخر.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٢٢
وقوله تعالى :﴿الذين يبخلون﴾ بدل من كل مختال فخور فإنّ المختال بالمال يضن به غالباً ﴿ويأمرون الناس﴾ أي : كل من يعرفونه ﴿بالبخل﴾ إرادة أن يكونوا لهم رفقاء يعملون بأعمالهم الخبيثة أو مبتدأ خبره محذوف مدلول عليه بقوله تعالى :﴿ومن يتول﴾ أي : يكلف نفسه الإعراض ضد ما في فطرته من محبة الخير والإقبال على الله تعالى :﴿فإن الله﴾ الذي له جميع صفات الكمال ﴿هو﴾ أي : وحده ﴿الغني الحميد﴾ لأنّ معناه ومن يعرض عن الإنفاق فإنّ الله غني أي : عن ماله وعن إنفاقه وكل شيء مفتقر إليه وهو مستحق للحمد سواء أحمده الحامدون أم لا ﴿لقد أرسلنا﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿رسلنا﴾ أي : الذين لهم نهاية الجلال بما لهم بنا من الاتصال من الملائكة إلى الأنبياء على جميعهم أفضل الصلاة والسلام ومن الأنبياء إلى الأمم ﴿بالبينات﴾ أي : الحجج القواطع ﴿وأنزلنا﴾ أي : بعظمتنا التي لا شيء أعلى منها ﴿معهم الكتاب﴾ أي : الكتب المتضمنة للأحكام وشرائع الدين ﴿والميزان﴾ أي : العدل، وقيل : الآلة روي أن جبريل عليه السلام نزل بالميزان فدفعه إلى نوح عليه السلام وقال مر قومك يزنوا به ﴿ليقوم الناس بالقسط﴾ أي : ليتعاملوا بينهم بالعدل ﴿وأنزلنا﴾ أي : خلقنا خلقا عظيماً بما لنا من القوة ﴿الحديد﴾ أي : المعروف على وجه من القوّة والصلابة واللين فلذلك سمي إيجاده إنزالاً ؛ وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : نزل آدم عليه السلام من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد وروي من آلة الحدادين السندان والكلبتان والميقعة والمطرقة والإبرة، وحكاه القشيري قال : والميقعة ما يحدد به يقال : وقعت الحديدة أقعها أي : حددتها وفي الصحاح : الميقعة الموضع الذي يألفه البازي فيقع عليه، وخشبة القصار التي يدق عليها والمطرقة والمسن الطويل، وروي ومعه المبرد والمسحاة، وعن عمر أن النبي ﷺ قال :"إنّ الله تعالى أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض أنزل الحديد والنار والماء والملح". وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :"أنزل ثلاثة أشياء مع آدم عليه السلام الحجر الأسود وكان أشد بياضاً من الثلج وعصا موسى عليه السلام وكانت من آس طولها عشرة أذرع مع طول موسى" ؛ وعن الحسن ﴿وأنزلنا الحديد﴾ خلقناه كقوله تعالى :﴿وأنزل لكم من الأنعام﴾ (الزمر : ٦)
وذلك أن أوامره تنزل من السماء وقضاياه وأحكامه ﴿فيه بأس﴾ أي : قوة وشدّة ﴿شديد﴾ أي : قوة شديدة فمنه جنة وهي آلة الدفع ومنه سلاح وهو آلة الضرب ﴿ومنافع للناس﴾ بما يعمل منه من مرافقهم لتقوم أحوالهم بذلك قال البيضاوي : ما من صنعة إلا والحديد آلتها، وقال مجاهد : يعني جنة، وقيل : انتفاع الناس بالماعون الحديد كالسكين والفأس ونحو ذلك، وروي أنّ الحديد أنزل في يوم الثلاثاء فيه بأس شديد، أي مهراق الدماء ولذلك نهي عن الفصد والحجامة في يوم الثلاثاء لأنه يوم جرى فيه الدم ؛ وروي أنه ﷺ قال :"أن في يوم الثلاثاء
٢٢٤
ساعة لا يراق فيها الدم".
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٢٢


الصفحة التالية
Icon