وعن أنس أنّ النبي ﷺ قال :"إنّ لكلّ أمة رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله تعالى" وعن ابن عباس قال : كانت ملوك بني إسرائيل بعد عيسى عليه السلام بدلوا التوراة والإنجيل وكان فيهم مؤمنون يقرؤون التوراة والإنجيل ويدعونهم إلى دين الله تعالى : فقيل لملوكهم : لو جمعتم هؤلاء الذين شقوا عليكم فقتلتموهم أو دخلوا فيما نحن فيه فجمعهم ملكهم وعرض عليهم القتل أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل وإلا فما بدلوا منهما فقالوا نحن نكفيكم أنفسنا، فقالت طائفة : ابنوا لنا اسطوانة ثم ارفعونا إليها أعطونا شيئاً نرفع به طعامنا وشرابنا فلا نرد عليكم، وقالت طائفة : دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونشرب كما يشرب الوحش فإن قدرتم علينا بأرض فاقتلونا، وقالت طائفة : ابنوا لنا دوراً في الفيافي نحتفر الآبار ونحترث البقر فلا نرد عليكم ولا نراكم ففعلوا بهم ذلك، فمضى أولئك على منهاج عيسى عليه السلام، وخلف قوم من بعدهم ممن غير الكتاب فجعل الرجل يقول : نكون في مكان فلان فنتعبد كما تعبد ونسيح كما ساح فلان ونتخذ دوراً كما اتخذ فلان وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم فذلك قوله عز وجلّ :﴿ورهبانية ابتدعوها﴾ ابتدعها هؤلاء الصالحون فما رعوها حق رعايتها، يعني الآخرين الذين جاؤوا من بعدهم ﴿فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم﴾ يعني : الذين اتبعوها ابتغاء مرضاة الله ﴿وكثير منهم فاسقون﴾ هم الذين جاؤوا من بعدهم قال : فلما بعث النبي ﷺ ولم يبق منهم إلا القليل انحط رجل من صومعته وجاء سائح من سياحته وصاحب دير من ديره فآمنوا وصدّقوا فقال الله تعالى :
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٢٥
يا أيها الذين آمنوا﴾ أي : بموسى وعيسى عليهما السلام إيماناً صحيحاً ﴿اتقوا الله﴾ أي : خافوا عقاب الملك الأعظم ﴿وآمنوا برسوله﴾ محمد ﷺ إيماناً مضموماً إلى إيمانكم بمن تقدّمه،
٢٢٧
هذا إذا كان خطاباً لمؤمني أهل الكتاب، وأمّا إذا كان خطاباً للمؤمنين من أهل الكتاب وغيرهم، فالمعنى : آمنوا برسوله إيماناً مضموماً إلى إيمانكم بالله تعالى فإنه لا يصح الإيمان بالله إلا مع الإيمان برسوله ﷺ ﴿يؤتكم﴾ أي : يثبكم على اتباعه ﴿كفلين﴾ أي : نصيبين ضخمين ﴿من رحمته﴾ يحصنانكم من العذاب كما يحصن الكفل الراكب من الوقوع وهو كساء يعقد على ظهر البعير فيلقي مقدّمه على الكاهل ومؤخره على العجز وهذا التحصين لأجل إيمانكم بمحمد ﷺ وإيمانكم بمن تقدّمه مع خفة العمل ورفع الآصار، ولا يبعد أن يثابوا على دينهم السابق وإن كان منسوخاً ببركة الإسلام. وقيل : الخطاب للنصارى الذين كانوا في عصره ﷺ وقال أبو موسى الأشعري : كفلين ضعفين بلسان الحبشة، وقال ابن زيد : كفلين أجر الدنيا وأجر الآخرة، وعن أبي موسى الأشعري أن النبي ﷺ قال :"ثلاث يؤتون أجرهم مرتين رجل كانت له جارية فأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوّجها، ورجل من أهل الكتاب آمن بكتابه وآمن بمحمد ﷺ وعبد أحسن عبادة الله ونصح سيده" ﴿ويجعل لكم﴾ أي : مع ذلك ﴿نوراً﴾ مجازياً في الدنيا من العلوم والمعارف القلبية وحسياً في الآخرة بسبب العمل ﴿تمشون به﴾ أي : مجازاً في الدنيا بالتوفيق للعمل وحقيقة في الآخرة بسبب العمل، وقال مجاهد : النور هو البيان والهدى، وقال ابن عباس : هو القرآن، وقال الزمخشري : هو النور المذكور في قوله تعالى :﴿نورهم يسعى﴾ (التحريم : ١)
وقيل : يمشون في الناس يدعونهم إلى الإسلام فيكونون رؤساء في دين الإسلام لا تزول عنكم رياستكم فيه وذلك أنهم خافوا أن تزول رياستهم لو آمنوا بمحمد ﷺ وإنما كان يفوتهم أخذ رشوة يسيرة من الضعفة بتحريف أحكام الله تعالى لا الرياسة الحقيقية في الدين ﴿ويغفر لكم﴾ أي : ما فرط منكم من سهو وعمد وهزل وجدّ ﴿والله﴾ أي : المحيط بجميع صفات الكمال ﴿غفور﴾ أي : بليغ المحو للذنوب عيناً وأثر ﴿رحيم﴾ أي : بليغ الإكرام لمن يغفر له ويوفقه للعمل بما يرضيه.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٢٥