٢٣٤
في مثله أو من قول الأطباء أو لمشقة شديدة تلحقه بالصوم أو بولائه ولو كانت المشقة لشدّة شهوة الوطء أو خوف زيادة مرض ﴿فإطعام﴾ أي : فعليه إطعام ﴿ستين مسكيناً﴾ أي : من قبل أن يتماسا حملاً للمطلق على المقيد بأن يملك كل مسكين من أهل الزكاة مدّاً من جنس الفطرة كبر وشعير وأقط ولبن فلا يجزئ لحم ودقيق وسويق، وخرج بأهل زكاة غيره فلا يجزئ دفعها لكافر ولا لهاشميّ ومطلبيّ ولا لمواليهما ولا لمن تلزمه مؤنته ولا لرقيق، لأنها حق الله تعالى فاعتبر فيها صفات الكمال.
﴿ذلك﴾ أي : الترخيص العظيم لكم والرفق بكم والبيان الشافي من أمر الله الذي هو موافق للحنيفية السمحة ملة أبيكم إبراهيم عليه السلام ﴿لتؤمنوا﴾ أي : ليتحقق إيمانكم ﴿بالله﴾ أي : الملك الذي لا أمر لأحد معه فتطيعوا بالانسلاخ عن أمر الجاهلية ﴿ورسوله﴾ أي : الذي تعظيمه من تعظيمه.
ولما رغب في هذا الحكم رهب في التهاون به بقوله تعالى :﴿وتلك﴾ أي : هذه الأحكام العظيمة المذكورة ﴿حدود الله﴾ أي : أوامر الملك الأعظم ونواهيه التي يجب امتثالها والتعبد بها لترعى حق رعايتها فالتزموها وقفوا عندها ولا تعدوها، فإنه لا يطاق انتقامه إذا تعدّى نقضه وإبرامه ﴿وللكافرين﴾ أي : العريقين في الكفر بها أو بشيء من شرائعه ﴿عذاب أليم﴾ أي : بما آلموا المؤمنين به من الاعتداء فإن عجز عن جميع خصال الكفارة لم تسقط الكفارة عنه بل هي باقية في ذمته إلى أن يقدر على شيء منها، فإذا قدر عل خصلة من خصالها فعلها، ولا يتبعض العتق ولا الصوم بخلاف الإطعام حتى لو وجد بعض مدّ أخرجه، لأنه لا بدل له وبقي الباقي في ذمته.
قال الزمخشري : فإن قلت فإذا امتنع المظاهر من الكفارة هل للمرأة أن تدافعه قلت لها ذلك وعلى القاضي أن يجبره على أن يكفر وأن يحبسه، ولا شيء من الكفارات يجبر عليه ويحبس إلا كفارة الظهار وحدها لأنه يضرّ بها في ترك التكفير والانتفاع بحق الاستمتاع فيلزم أبداً حقها فإن قلت : فإن مس قبل أن يكفر قلت عليه أن يستغفر ولا يعود حتى يكفر لما روي أن سلمة بن صخر البياضي قال لرسول الله ﷺ ظاهرت من امرأتي ثم أبصرت خلخالها في ليلة قمراء فواقعتها فقال عليه الصلاة والسلام : استغفر ربك ولا تعد حتى تكفر" ا. ه. والمراد بالاستغفار هنا : التوبة.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٣٠
ولما ذكر تعالى المؤمنين الواقفين عند حدوده ذكر المحادين المخالفين لها بقوله تعالى :﴿إن الذين يحادّون الله﴾ أي : يغالبون الملك الأعلى على حدوده ليجعلوا حدوداً غيرها وذلك صورته صورة العداوة ؛ لأنّ المحادة المعاداة والمخالفة في الحدود وهو كقوله تعالى :﴿ومن يشاق الله﴾ (الحشر : ٤)
﴿ورسوله﴾ أي : الذي عزه من عزه، وقيل : يحادّون الله أي : أولياء الله كما في الخبر "من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة" والضمير في قوله تعالى :﴿إن الذين يحادّون الله ورسوله﴾ يحتمل أن يرجع إلى المنافقين، فإنهم كانوا يوادّون الكافرين ويظاهرونهم على النبيّ ﷺ فأذلهم الله تعالى ويحتمل أن يرجع لجميع الكفار فأعلم الله تعالى نبيه ﷺ أنهم ﴿كبتوا﴾ أي :
٢٣٥
أذلوا وقال أبو عبيدة والأخفش : أهلكوا، وقال قتادة : أخذوا، وقال أبو زيد : عذبوا، وقال السدي : لعنوا، وقال الفراء : أغيظوا يوم الخندق.
وقيل : يوم بدر ﴿كما كبت الذين من قبلهم﴾ أي : المحادّين المخالفين رسلهم كقوم نوح ومن بعدهم ممن أصرّ على العصيان.
قال القشيريّ : ومن ضيع لرسول الله ﷺ سنة أو أحدث في دينه بدعة انخرط في هذا السلك ﴿وقد أنزلنا﴾ أي : بما لنا من العظمة عليكم وعلى من قبلكم ﴿آيات بينات﴾ أي : دلالات عظيمة هي في غاية البيان لذلك ولكل ما يتوقف عليه الإيمان كترك المحادّة وتحصيل الإذعان ﴿وللكافرين﴾ أي : الراسخين في الكفر بالآيات أو بغيرها من أوامر الله تعالى :﴿عذاب مهين﴾ بما تكبروا واعتدوا على أولياء الله تعالى وشرائعه يهينهم ذلك العذاب ويذهب عزهم وشماختهم ويتركون به محادتهم.


الصفحة التالية
Icon