ثانيهما : ما قدّره الله تعالى فهو كائن فأخبر بصيغة الماضي إشارة إلى أنه أمر واقع لا دافع له. وأمّا حجة قول الأكثرين على أنه صلح الحديبية فلما روى البراء قال : تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحاً ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية كنا مع النبي ﷺ أربع عشرة مائة والحديبية بئر فنزحناها فلم نترك فيها قطرة فبلغ ذلك النبيّ ﷺ فأتاها فجلس على شفيرها فدعا بإناء فتوضأ ثم تمضمض ودعا وصبه فيها فدرت بالماء حتى شرب جميع من كان معه" وقيل : جاش حتى امتلأت ولم ينفد ماؤها بعد وقال الشعبي في قوله تعالى :﴿إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً﴾ قال فتح الحديبية غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر واطعموا نخل خيبر وبلغ الهدي محله وظهرت الروم على فارس ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس. قال الزهري : ولم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية. وذلك أنّ المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكن الإسلام في قلوبهم وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير وكثر سواد الإسلام.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٠
وقال البغوى :﴿إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً﴾ أي : قضينا لك قضاءً مبيناً. وقال الضحاك : أي بغير مال وكان الصلح من الفتح. واختلف قول المفسرين في معنى اللام في قوله تعالى :
﴿ليغفر لك الله﴾ أي : الملك الأعظم. فقال البيضاوي : علة للفتح من حيث إنه مسبب عن جهاد الكفار والسعي في إعلاء الدين وإزاحة الشرك وتكميل النفوس الناقصة وقال البغوي : قيل : اللام لام كي معناه ﴿إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً﴾ لكي يجتمع لك مع المغفرة تمام النعمة في الفتح. وقال الجلال المحلي : اللام للعلة الغائية فمدخولها مسبب لا سبب. وقال بعضهم : إنها لام القسم. والأصل ليغفرن فكسرت اللام تشبيهاً بلام كي وحذفت النون وردّ هذا : بأنّ اللام لا تكسر وبأنها لا تنصب المضارع، قال ابن عادل : وقد يقال إنّ هذا ليس بنصب، وإنما هو بقاء الفتح الذي كان قبل نون التوكيد بقي ليدل عليها ولكنه قول مردود. وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف جعل فتح مكة علة للمغفرة ؟
قلت : لم يجعل علة للمغفرة ولكن لاجتماع ما عدد من الأمور الأربعة وهي المغفرة، وإتمام النعمة، وهداية الصراط
٢١
المستقيم، والنصر العزيز، كأنه قال يسرنا لك فتح مكة ونصرناك على عدوّك لنجمع لك بين عز الدارين وأغراض الآجل والعاجل ويجوز أن يكون فتح مكة من حيث إنه جهاد للعدو سبباً للمغفرة والثواب ا. ه قال ابن عادل : وهذا الذي قاله مخالف لظاهر الآية، فإنّ اللام داخلة على المغفرة فتكون المغفرة علة للفتح والفتح معلل بها فكان ينبغي أن يقول : كيف جعل فتح مكة معللاً بالمغفرة ثم يقول لم يجعل معللاً ا. ه وقيل غير ذلك والأسلم ما اقتصر عليه الجلال المحلي واختلف أيضاً في الذنب في قوله تعالى :﴿ما تقدّم من ذنبك﴾ فقال البقاعي : أيّ الذي تقدّم في القتال أمرك بالاستغفار له وهو ما تنتقل عنه من مقام كامل إلى مقام فوقه أكمل منه فتراه بالنسبة إلى أكملية المقام الثاني ذنباً. وكذا قوله تعالى :﴿وما تأخر﴾ وقال الرازي : المغفرة المعتبرة لها درجات كما أن الذنوب لها درجات حسنات الأبرار سيئات المقرّبين، وقال عطاء الخراساني :﴿ما تقدّم من ذنبك﴾ يعني ذنب أبويك آدم وحوّاء ببركتك وما تأخر ذنوب أمّتك بدعوتك. وقال سفيان الثوري :﴿ما تقدّم﴾ ما عملت في الجاهلية ﴿وما تأخر﴾ كل شيء لم تعمله. قال البغوي : ويذكر مثل ذلك على سبيل التأكيد، كما يقال أعطى من رآه ومن لم يره. وقيل : ما تقدّم من حديث مارية وما تأخر من امرأة زيد.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٠
وقيل : المراد به ترك الأفضل. وقيل : الصغائر على طريق من جوّز الصغائر على الأنبياء وقيل المراد بالمغفرة : العصمة ومعنى قوله تعالى :﴿وما تأخر﴾ قيل : إنه وعد للنبي ﷺ بأنه لا يذنب بعد النبوّة. وقيل : ما تقدم على الفتح وما تأخر عنه وقيل : المراد ذنب المؤمنين. وقيل : غير ذلك. والأولى في ذلك : هو الأوّل واختلف أيضاً في النعمة في قوله تعالى ﴿ويتم نعمته عليك﴾ فقال البقاعي : بنقلتك من عالم الشهادة إلى عالم الغيب ومن عالم الكون والفساد إلى عالم الثبات والصلاح الذي هو أخص بحضرته وأولى برحمته وإظهار أصحابك من بعدك على جميع أهل الملل.
وقال البيضاوي : بإعلاء الدين وضم الملك إلى النبوّة. وقال الجلال المحلي : بالفتح المذكور. وقيل : إن التكاليف عند الفتح تمت حيث وجب الحج وهو آخر التكاليف والتكليف نعمة. وقيل : بإجلاء الأرض لك عن معانديك فإنّ من يوم الفتح لم يبق للنبيّ ﷺ عدو فإنّ بعضهم قتل يوم بدر والباقون آمنوا واستأمنوا يوم الفتح. وقيل ويتمّ نعمته عليك في الدنيا والآخرة.
أما في الدنيا فباستجابة دعائك في طلب الفتح.


الصفحة التالية
Icon