فخرج النبي ﷺ في ثلاثة من أصحابه، واشتملوا على الخناجر وأرادوا الفتك برسول الله ﷺ فأرسلت امرأة ناصحة من بني النضير إلى أخيها، وهو رجل مسلم من الأنصار فأخبرته بما أراد بنو النضير من الغدر برسول الله ﷺ فأقبل أخوها سريعاً حتى أدرك النبي ﷺ فسارّه بخبرهم.
فلما كان الغد غدا عليهم رسول الله ﷺ بالكتائب فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة، فقذف الله في قلوبهم الرعب، وأيسوا من نصر المنافقين فسألوا رسول الله ﷺ الصلح، فأبى عليهم إلا أن يخرجوا من المدينة على ما يأمرهم به النبيّ ﷺ فقبلوا ذلك فصالحهم على الجلاء وعلى أنّ لهم ما أقلت الإبل من أموالهم إلا الحلقة، وهي السلاح، وعلى أن يخلوا لهم ديارهم وعقارهم وسائر أموالهم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٥١
قال ابن عباس رضي الله عنهما : على أن يحمل كل أهل بيت على بعير ما شاء من متاعهم، وللنبيّ ﷺ ما بقي.
وقال الضحاك : على كل ثلاثة نفر بعيراً ووسقاً من طعام. ففعلوا ذلك وخرجوا من المدينة إلى الشام إلى أذرعات وأريحاء إلا أهل بيتين من آل بني الحقيق، وآل حيي بن أخطب فإنهم لحقوا
٢٥٢
بخيبر، ولحقت طائفة بالحيرة.
فذلك قوله تعالى :﴿هو﴾ أي : وحده من غير إيجاف خيل ولا ركاب ﴿الذي أخرج﴾ أي : على وجه القهر ﴿الذي كفروا﴾ أي : ستروا ما في كتبهم من الشواهد لمحمد ﷺ بأنه النبيّ الخاتم، وما في فطرتهم الأولى من اتباع الحق ﴿من أهل الكتاب﴾ أي : الذي أنزله الله تعالى على رسوله موسى ﷺ وهم بنو النضير. وفي التعبير بكفروا إشعار بأنهم الذي أزالوا بالتبديل والإخفاء ما قدروا عليه مما بقي من التوراة ﴿من ديارهم﴾ أي : مساكنهم بالمدينة عقوبة لهم، لأنّ الوطن عديل الروح لأنه للبدن كالبدن للروح فكان الخروج منه في غاية العسر. قال ابن اسحق : كان إجلاء بني النضير مرجع النبي ﷺ من أحد، وفتح قريظة عند مرجعه من الأحزاب وبينهما سنتان ﴿لأول الحشر﴾ هو حشرهم إلى الشام.
وآخره أن جلاهم عمر في خلافته إلى خيبر. قال سمرة الهمداني : كان أوّل الحشر من المدينة، والحشر الثاني من خيبر وجميع جزيرة العرب إلى أذرعات وأريحا من الشام في أيام عمر وقال القرطبي : الحشر الجمع، وهو على أربعة أضرب : حشران في الدنيا وحشران في الآخرة، أما الذي في الدنيا فقوله تعالى :﴿هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر﴾ كانوا من سبط لم يصبهم جلاء، وكان الله تعالى قد كتب عليهم الجلاء فلولا ذلك لعذبهم في الدنيا، وكان أوّل حشر في الدنيا إلى الشام، قال ابن عباس وعكرمة رضي الله عنهم : من شك أنّ المحشر في الشام فليقرأ هذه الآية، وأنّ النبي ﷺ قال لهم :"اخرجوا قالوا إلى أين، قال : إلى أرض الحشر" قال قتادة : هذا أول الحشر. قال ابن عباس رضي الله عنهما : هو أول من حشر من أهل الكتاب وأخرج من داره.
وأما الحشر الثاني : فحشرهم قرب القيامة، قال قتادة : تأتي نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا وتأكل من تخلف منهم، وهذا ثابت في الصحيح. وذكروا أنّ تلك النار ترى بالليل ولا ترى بالنهار.
وقال ابن العربي : للحشر أوّل ووسط وآخر، فالأوّل : جلاء بني النضير، والأوسط : جلاء خيبر، والآخر : حشر يوم القيامة. وعن الحسن : هم بنو قريظة وخالفه بقية المفسرين، وقالوا : بنو قريظة ما حشروا ولكنهم قتلوا حكاه الثعلبي ﴿ما ظننتم﴾ أيها المؤمنون ﴿أن يخرجوا﴾ أي : يوقعوا الخروج من شيء أورثتموه منهم لما كان لكم من الضعف ولهم من القوة لكثرتهم وشدّة بأسهم وقرب بني قريظة منهم وأهل خيبر أيضاً غير بعيدين عنهم، وكلهم أهل ملتهم والمنافقون من أنصارهم فخابت ظنونهم في جميع ذلك ﴿وظنوا أنهم﴾ وقوله تعالى :﴿ما نعتهم حصونهم﴾ فيه وجهان :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٥١
أحدهما : أن تكون حصونهم مبتدأ، وما نعتهم خبر مقدّماً، والجملة خبر أنهم.
الثاني : أن تكون مانعتهم خبر أنهم، وحصونهم فاعل به نحو إنّ زيداً قائم أبوه، وإنّ عمراً قائمة جاريته. وجعله أبو حيان أولى لأنّ في نحو قائم زيد على أن يكون خبراً مقدّماً ومبتدأ مؤخراً خلافاً، والكوفيون يمنعونه فمحل الوفاق أولى.
٢٥٣


الصفحة التالية
Icon