﴿ذلك﴾ أي : الأمر العظيم الذي فعله بهم من الجلاء ومقدماته في الدنيا، ويفعله بهم في الآخرة ﴿بأنهم شاقوا الله﴾ أي : الملك الأعلى الذي له الإحاطة التامّة فكانوا في شق غير شقه، بأن صاروا في شق الأعداء المحاربين بعدما كانوا الموادعين ﴿و﴾ شاقوا ﴿رسوله﴾ أي : الذي إجلاله من إجلاله ﴿ومن يشاق الله﴾ أي : يوقع في الباطن مشاقة الملك الأعلى الذي لا كفؤ له في الماضي والحال والاستقبال ﴿فإن الله﴾ أي : المحيط بجميع العظمة ﴿شديد العقاب﴾ وذلك كما فعل بأهل خيبر.
وقوله تعالى :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٥١
﴿ما﴾ شرطية في موضع نصب بقوله تعالى :﴿قطعتم﴾ وقوله تعالى :﴿من لينة﴾ بيان له. واختلف في معنى قوله تعالى :﴿من لينة﴾ فأكثر المفسرين على أنها هي النخلة مطلقاً، كأنهم اشتقوها من اللين. قال ذو الرمة :
*كان قتودي فوقها عش طائر ** على لينة سوقاء تهفو جنوبها*
وقال الزهري : هي النخلة ما لم تكن عجوة ولا برنية، وقال جعفر بن محمد : هي العجوة خاصة، وذكر أن العتيق والعجوة كانتا مع نوح عليه الصلاة والسلام في السفينة، والعتيق : الفحل وكانت العجوة أصل الإناث كلها فلذلك شق على اليهود قطعها حكاه الماوردي. وقال سفيان : هي ضرب من النخل يقال لثمرها اللون، وهو شديد الصفرة يرى نواه من خارجه، ويغيب فيه الضرس النخلة منها أحب إليهم من وصيف.
٢٥٥
وقيل : هي النخلة الكريمة، أي : القريبة من الأرض. وقيل : هي الفسيلة، أي : بالفاء وهي صغار النخل لأنها ألين من النخلة. وقيل : هي الأشجار كلها للينها بالحياة. وقال الأصمعي : هي الدقل. قال ابن العربي : والصحيح ما قاله الأزهري ومالك، وجمع اللينة لين ؛ لأنه من باب اسم الجنس كتمرة وتمر، وقد تكسر على ليان وهو شاذ لأن تكسر ما يفرق بتاء التأنيث شاذ كرطبة ورطب وأرطاب والضمير في قوله تعالى :﴿أوتركتموها قائمة﴾ عائد على معنى ما.
ولما كان الترك يصدق ببقائها مغروسة أو مقطوعة قال تعالى :﴿على أصولها فبأذن الله﴾ أي : فقطعها بتمكين الملك الأعظم، روي أنّ رسول الله ﷺ لما نزل ببني النضير وتحصنوا بحصونهم أمر بقطع نخيلهم وإحراقها، فجزع أعداء الله تعالى عند ذلك وقالوا : يا محمد زعمت أنك تريد الصلاح، أفمن الصلاح عقر الشجر وقطع النخل، وهل وجدت فيما زعمت أنه أنزل عليك الفساد في الأرض، فوجد المسلمون في أنفسهم من قولهم وخشوا أن يكون ذلك فساداً، واختلفوا في ذلك فقال بعضهم لا تقطعوا فإنه مما أفاء الله علينا، وقال بعضهم : بل نغيظهم بقطعه فأنزل الله تعالى هذه الآية بتصديق من نهى عن قطعه، وتحليل من قطعه من الأثم، وإن ذلك كان بإذن الله وعن ابن عمر قال :"حرق رسول الله ﷺ نخل بني النضير وقطع" واللام في قوله تعالى :﴿وليخزي الفاسقين﴾ متعلقة بمحذوف، أي : وأذن في قطعها ليخزي اليهود في اعتراضهم بأن قطع الشجر المثمر فساد، وليسر المؤمنين ويعزهم، وليخزي الفاسقين.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٥٥
فإن قيل : لم خصت اللينة بالقطع ؟
أجيب : بأنه إن كانت من الألوان فليستبقوا لأنفسهم العجوة والبرنية، وإن كانت من كرام النخل فليكون غيظ اليهود أشدّ.
واحتجوا بهذه الآية على أنّ حصون الكفرة وديارهم يجوز هدمها وتحريقها وتغريقها، وأن ترمى بالمناجيق، وكذا أشجارهم. وعن ابن مسعود : أنهم قطعوا منها ما كان موضعاً للقتال، وروي : أنّ رجلين كانا يقطعان أحدهما العجوة والآخر اللون فسألهما رسول الله ﷺ فقال : هذا تركتها لرسول الله ﷺ وقال : هذا قطعتها غيظاً للكفار. وقد استدل به على جواز الاجتهاد، وعلى جوازه بحضور النبي ﷺ لأنهما بالاجتهاد فعلا ذلك، واحتج به من يقول : كل مجتهد مصيب. وقال الكيا الطبري : وإن كان الاجتهاد يبعد في مثله مع وجود النبيّ ﷺ بين أظهرهم، ولا شك أنّ رسول الله ﷺ رأى ذلك وسكت، فتلقوا الحكم من تقريره فقط. قال ابن العربي : وهذا باطل لأنّ رسول الله ﷺ كان معهم، ولا اجتهاد مع حضوره ﷺ وإنما يدل على اجتهاد النبيّ ﷺ فيما لم ينزل عليه أخذاً بعموم الأدلة للكفار ودخولاً للأذن في الكل بما يقضي عليهم بالبوار، وذلك قوله تعالى :﴿وليخزي الفاسقين﴾
﴿وما أفاء الله﴾ أي : ردّ الملك الذي له الأمر كله ردّاً سهلاً بعد أن كان في غاية العسر والصعوبة ﴿على رسوله﴾ فصيره في يده بعد أن كان خروجه عنها بوضع أيدي الكفرة عليه ظلماً وعدواناً، كما دل عليه التعبير بالفيء الذي هو عود الظلّ إلى الناحية التي كان ابتدأ منها ﴿منهم﴾
٢٥٦
أي : ردّاً مبتدأ من الفاسقين فبين تعالى أن هذا فيء لا غنيمة، ويدخل في الفيء أموال من مات منهم بلا وارث، وكذا الفاضل عن وارث له غير حائز، وكذا الجزية وعشر تجارتهم، وما جلوا أي : تفرقوا عنه ولو لغير خوف كضرّ أصابهم.