وثالثها : الأخوة بسبب اشتراكهم في عداوة محمد ﷺ فقالوا لليهود :﴿لئن أخرجتم﴾ أي : من مخرجّ ما من المدينة ﴿لنخرجن معكم﴾ أي : منها ﴿ولا نطيع فيكم﴾ أي في خذلانكم ﴿أحداً﴾ أي يريد خذلانكم من الرسول والمؤمنين. وأكدوا بقولهم :﴿أبداً﴾ أي : ما دمنا نعيش، وبمثل هذا العزم يستحق الكافر الخلود الأبدي في العذاب ﴿وإن قوتلتم﴾ أي : من أي مقاتل كان يقاتلكم ولم تخرجوا ﴿لننصرنكم﴾ أي : لنعيننكم ولنقاتلنّ معكم.
ولما كان قولهم هذا كلاماً يقضي عليه سامعه بالصدق من حيث كونه مؤكداً مع كونه مبتدأ من غير سؤال فيه بين حاله سبحانه بقوله تعالى :﴿والله﴾ أي : يقولون ذلك والحال أنّ المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ﴿يشهد إنهم﴾ أي : المنافقين ﴿لكاذبون﴾ أي : فيما قالوا ووعدوا، وهذا من أعظم دلائل النبوّة لأنه إخبار بغيب بعيد عن العادة.
ثم أخبر تعالى عن حال المنافقين بقوله تعالى :﴿لئن أخرجوا﴾ أي : بنو النضير من أي مخرج كان ﴿لا يخرجون﴾ أي : المنافقون ﴿معهم﴾ أي : حمية لهم لأسباب يعلمها الله تعالى :﴿ولئن قوتلوا﴾ أي : اليهود من أيّ مقاتل كان، فيكف بأشجع الخلق وأعلمهم ﷺ ﴿لا ينصرونهم﴾ أي : المنافقون.
ولقد صدق الله تعالى وكذبوا في الأمرين معاً القتال والإخراج لا نصروهم ولا خرجوا معهم
٢٦٧
فكان ذلك من أعلام النبوة، وعلم به من كان شاكاً فضلاً عن الموفقين ﴿ولئن نصروهم﴾ أي : المنافقون في وقت من الأوقات ﴿ليولنّ﴾ أي : المنافقون ومن ينصرونه. وحقرهم بقوله تعالى :﴿الأدبار﴾ أي : ولقد قدر وجود نصرهم لولوا الأدبار منهزمين ﴿ثم لا ينصرون﴾ أي : يتجدّد لفريقيهم، ولا لواحد منهما نصرة في وقت من الأوقات. ولم يزل المنافقون واليهود في الذل.
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٦١
لأنتم﴾ أيها المؤمنون ﴿أشد رهبة﴾ أي : خوفاً ﴿في صدورهم﴾ أي : اليهود ومن ينصرهم ﴿من الله﴾ أي : لتأخير عذابه، وأصل الرهبة والرهب : الخوف الشديد مع حزن واضطراب، والمعنى : أنهم يرهبونكم ويخافون منكم أشد الخوف، وأشد من رهبتهم من الله لما مرّ. ﴿ذلك﴾ أي : الأمر الغريب وهو خوفهم الثابت اللازم من مخلوق مثلهم ضعيف لرؤيتهم له، وعدم خوفهم من الخالق على ماله من العظمة في ذاته، ولكونه غنياً عنهم ﴿بأنهم قوم﴾ أي : على ما لهم من القوة ﴿لا يفقهون﴾ أي : لا يتجدّد لهم بسبب كفرهم واعتمادهم على مكرهم في وقت من الأوقات، فهم يشرح صدورهم ليدركوا به أنّ الله تعالى هو الذي ينبغي أن يخشى لا غيره، بل هم كالأنعام لا نظر لهم إلى الغيب إنما هم مع المحسوسات. والفقه هو العلم بمفهوم الكلام ظاهره الجلي وغامضه الخفي بسرعة فطنة وجودة قريحة.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٦١
﴿لا يقاتلونكم﴾ أي : اليهود والمنافقون ﴿جميعاً﴾ أي : قتالاً تقصدونه مجاهرة وهم مجتمعون كلهم في وقت من الأوقات ومكان من الأماكن ﴿إلا في قرى محصنة﴾ أي : ممتنعة بحفظ الدروب، وهي السكك الواسعة بالأبواب والخنادق ونحوها ﴿أو من وراء جدر﴾ أي : محيط بهم سواء كان بقرية أم بغيرها لشدّة خوفهم، وقد أخرج هذا ما حصل من بعضهم عن ضرورة كالأسير، ومن كان ينزل من أهل خيبر من الحصن يبارز ونحو ذلك فإنه لم يكن عن اجتماع أو يكون هذا خاصاً ببني النضير في هذه الكرة. وقرأ ابن كثير وأبو عمر وبكسر الجيم وفتح الدال وألف بعدها وأمال الألف أبو عمرو، والباقون بضم الجيم والدال ﴿بأسهم﴾ أي : حربهم ﴿بينهم شديد﴾ أي : بعضهم فظ على بعض وعداوة بعضهم بعضاً شديدة. وقيل : بأسهم بينهم من وراء الحيطان والحصون شديد، فإذا خرجوا إليكم فهم أجبن خلق الله تعالى :﴿تحسبهم﴾ أي : اليهود
٢٦٨
والمنافقين يا أعلى الخلق، أو يا أيها الناظر وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو والكسائي بكسر السين، والباقون بفتحها ﴿جميعاً﴾ لما هم فيه من اجتماع الأشباح ﴿وقلوبهم شتى﴾ أي : متفرقة أشدّ افتراقاً، وموجب هذا الشتات اختلاف الأهواء التي لا جامع لها من نظام العقل كالبهائم، وإن اجتمعوا في عداوة أهل الحق كاجتماع البهائم في الهرب من الذئب.
قال القشيري : اجتماع النفوس مع تنافر القلوب واختلافها أصل كل فساد، وموجب كل تخاذل، ومقتض لتجاسر العدو واتفاق القلوب، والاشتراك في الهمة، والتساوي في القصد موجب كل ظفر، وكل سعادة. وقرأ شتى الحسن وحمزة والكسائي بالإمالة محصنة، وورش بالفتح وبين اللفظين وأبو عمرو بين بين، والباقون بالفتح، وهي على وزن فعلى ﴿ذلك﴾ أي : الأمر الغريب من الافتراق بعد الاتفاق الذي يحيل الاجتماع ﴿بأنهم قوم﴾ أي : مع شدتهم ﴿لا يعقلون﴾ فلا دين لهم مثلهم في ترك الإيمان.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٦٨