أحدها : إنه استثناء متصل من قوله تعالى في إبراهيم، ولكن لا بدّ من حذف مضاف ليصح الكلام، تقديره في مقالات إبراهيم : إلا قوله كيت وكيت.
ثانيها : إنه مستثنى من أسوة حسنة، واقتصر على ذلك الجلال المحلي، وجاز ذلك لأنّ القول أيضاً من جملة الأسوة، لأنّ الأسوة الاقتداء بالشخص في أقواله وأفعاله فكأنه قيل لكم فيه أسوة في جميع أحواله من قول وفعل إلا قوله كذا، وهو أوضح لأنه غير محوج إلى تقدير مضاف، وغير مخرج للاستثناء من الاتصال الذي هو أصله إلى الانقطاع، ولذلك لم يذكر الزمخشري غيره.
ثالثها : قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون الاستثناء من التبري والقطيعة التي ذكرت، أي : لم تبق صلة إلا كذا.
رابعها : إنه استثناء منقطع، أي : لكن قول إبراهيم وهذا بناء من قائله على أنّ القول لم يندرج تحت قوله أسوة، وهو ممنوع. قال القرطبي : معنى قوله تعالى إلا قول إبراهيم لأبيه ﴿لأستغفرنّ لك﴾ أي : فلا تتأسوا به في الاستغفار فتستغفروا للمشركين فإنه كان عن موعدة منه له، قاله قتادة ومجاهد وغيرهما. وقيل : معنى الاستثناء أن إبراهيم هجر قومه وباعدهم إلا في الاستغفار لأبيه، ثم بين عذره في سورة التوبة، وفي هذا دلالة على تفضيل نبينا ﷺ على سائر الأنبياء، لأنا حين أمرنا بالاقتداء به أمرنا أمراً مطلقاً في قوله تعالى :﴿وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا﴾ وحين أمرنا بالاقتداء بإبراهيم استثنى بعض أفعاله، وهذا إنما جرى لأنه ظنّ أنه أسلم فلما بان أنه لم يسلم تبرّأ منه، وعلى هذا فيجوز الاستغفار لمن يظنّ أنه أسلم، وأنتم لم تجدوا مثل هذا الظنّ فلم توالونهم. وقوله ﴿وما أملك لك من الله﴾ أي : من عذاب أو ثواب الملك إلا على المحيط بنعوت الجلال ﴿من شيء﴾ من تمام قوله المستثنى، ولا يلزم من استثناء المجموع استثناء جميع أحواله.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٧٩
وقوله :﴿ربنا﴾ أي : أيها المحسن إلينا ﴿عليك﴾ أي : لا على غيرك ﴿توكلنا﴾ أي : فوّضنا أمرنا إليك يجوز أن يكون من مقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام والذين معه، فهو من جملة الأسوة الحسنة، وفصل بينهما بالاستثناء ويجوز أن يكون منقطعاً عما قبله على إضمار قول، وهو تعليم من الله تعالى لعباده كأنه قال لهم قولوا ربنا عليك توكلنا ﴿وإليك﴾ أي : وحدك ﴿أنبنا﴾ أي : رجعنا بجميع ظواهرنا وبواطننا ﴿وإليك﴾ أي وحدك ﴿المصير﴾ أي : الرجوع في الآخرة.
﴿ربنا﴾ أي : أيها المربي لنا والمحسن إلينا ﴿لا تجعلنا فتنة للذين كفروا﴾ أي : بأن تسلطهم علينا فيفتنوننا بعذاب لا نحتمله، أو فيظنوا أنهم على حق فيفتتنوا بذلك. وقيل : لا تعذبنا بعذاب من عندك فيقولون لو كان هؤلاء على الحق لما أصابهم ذلك. وقيل : لا تسلط عليهم الرزق دوننا، فإنّ ذلك فتنة لهم ﴿واغفر لنا﴾ أي : استر ما وقع منا من الذنوب، وامح عينه وأثره ﴿ربنا﴾ أي : أيها المحسن إلينا وأكدوا إعلاماً بشدّة رغبتهم في حسن الثناء عليه فقالوا :﴿إنك أنت﴾ أي : وحدك لا غيرك ﴿العزيز﴾ أي : الذي يغلب كل شيء، ولا يغلبه شيء ﴿الحكيم﴾ أي : الذي يضع الأشياء في أوفق محالها فلا يستطاع نقضها، ومن كان كذلك فهو حقيق بأن يعطى من أمله ما طلب.
٢٨٠
وقوله تعالى :﴿لقد كان لكم﴾ أي : يا أمّة محمد جواب قسم مقدّر ﴿فيهم﴾ أي : إبراهيم ومن معه من الأنبياء والأولياء ﴿أسوة حسنة﴾ أي : في التبري من الكفار، وكرّر للتأكيد. وقيل : نزل الثاني بعد الأول بمدّة. قال القرطبي : وما أكثر المكرّرات في القرآن على هذا الوجه. وقوله تعالى :﴿لمن كان يرجو الله﴾ أي : الملك المحيط بجميع صفات الكمال ﴿واليوم الآخر﴾ أي : الذي يحاسب فيه على النقير والقطمير بدل من الضمير في لكم بدل بعض من كل، وفي ذلك بيان أنّ هذه الأسوة لمن يخاف الله ويخاف عذاب الآخرة ﴿ومن يتول﴾ أي : يوقع الأعراض عن أوامر الله تعالى فيوالي الكفار ﴿فإن الله﴾ أي : الذي له الإحاطة الكاملة ﴿هو﴾ أي : خاصة ﴿الغنيّ﴾ أي : عن كل شيء ﴿الحميد﴾ أي : الذي له الحمد المحيط لإحاطته بأوصاف الكمال، فهو حميد في نفسه وصفاته، أو حميد إلى أوليائه وأهل طاعته.