وقال ابن عباس : يوضع الحجر على الحجر، ثم يرص بأحجار صغار، ثم يوضع اللبن عليه فيسميه أهل مكة المرصوص. وقال الرازي : يجوز أن يكون المعنى على أن يستوي شأنهم في حرب عدوهم، حتى يكونوا في اجتماع الكلمة وموالاة بعضهم بعضاً كالبنيان المرصوص قال القرطبي : استدل بعضهم بهذه الآية على أن قتال الراجل أفضل من قتال الفارس، لأن الفرسان لا يصطفون على هذه الصفة. قال المهدوي : وذلك غير مستقيم لما جاء في فضل الفارس من الأجر والغنيمة، ولا يخرج الفرسان من معنى الآية لأن معناها الثبات، ولهذا يحرم الخروج من الصف إن قاومناهم إلا متحرفاً لقتال، كمن ينصرف ليكمن في موضع ويهجم، أو ينصرف من مضيق ليتبعه العدو إلى متسع سهل للقتال، أو متحيز إلى فئة يستنجد بها ولو بعيدة قليلة أو كثيرة، فيجوز انصرافه لقوله تعالى :﴿إلا متحرفاً لقتال﴾ (الأنفال : ١٦)
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٩٠
وتجوز المبارزة لكافر لم يطلبها بلا كره، وندب
٢٩٢
لقوي أذن له الإمام أو نائبه لإقراره ﷺ عليها، وهي ظهور اثنين من الصفين للقتال، من البروز وهو الظهور، فإن طلبها كافر سنت للقوي المأذون له للأمر بها في خبر أبي داود، ولإن تركها حينئذ إضعافاً لنا وتقوية لهم، وإلا كرهت
ولما ذكر تعالى الجهاد ذكر قصة موسى وعيسى عليهما السلام تسلية لنبيه ﷺ ليصبر على أذى قومه، مبتدئاً بقصة موسى عليه السلام لتقدمه فقال تعالى :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٩٠
﴿وإذ﴾ أي : واذكر ياأشرف الخلق إذ ﴿قال موسى لقومه﴾ أي : بني إسرائيل، وقوله :﴿ياقوم﴾ استعطاف لهم واستنهاض إلى رضا ربهم ﴿لم تؤذونني﴾ أي : تجددون أذاي مع الاستمرار، وذلك حين رموه بالأدرة كما مر في سورة الأحزاب ومن الأذى ما ذكر في قصة قارون أنه دس إلى امرأة تدعي على موسى الفجور، ومن الأذى قولهم ﴿اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة﴾ (الأعراف : ١٣٨)
وقولهم :﴿فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون﴾ (المائدة : ٢٤)
وقولهم : أنت قتلت هارون، وغير ذلك. وقوله تعالى :﴿وقد تعملون﴾ جملة حالية، أي : علمتم علماً قطعياً تجدده لكم كل وقت بتجدد أسبابه بما آتيتكم به من المعجزات، والكتاب الحافظ لكم من الزيغ ﴿إني رسول الله﴾ الملك الأعظم الذي لا كفؤ له ﴿إليكم﴾ ورسوله يعظم ويحترم لا أنه تنتهك جلالته وتخترم، وأنا لا أقول لكم شيئاً إلا عنه، ولا أنطق عن الهوى ﴿فلما زاغوا﴾ أي : عدلوا عن الحق بمخالفة أوامر الله تعالى وبإيذائه. وقرأ حمزة بالإمالة والباقون بالفتح ﴿أزاغ الله﴾ أي : الملك الذي له الأمر كله ﴿قلوبهم﴾ أي : أمالهم عن الهدى على وفق ما قدره في الأزل ﴿والله﴾ أي : الذي له الحكمة البالغة لأنه المستجمع لصفات الكمال ﴿لا يهدي﴾ أي : بالتوفيق بعد هداية البيان ﴿القوم الفاسقين﴾ أي : العريقين في الفسق الذين لهم قوة المحاولة، فلم يحملهم على الفسق ضعف فاحذروا أن تكونوا مثلهم في العزائم فتساووهم في عقوبات الجرائم، وهذا تنبيه على عظيم إيذاء الرسل حتى إن أذاهم يؤدي إلى الكفر وزيغ القلوب عن الهدى، ثم ذكر القصة الثانية بقوله تعالى :
﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يبَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُواْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٩٣
وإذ﴾
أي : واذكر يا أشرف المرسلين إذ ﴿قال عيسى﴾ ووصفه بقوله ﴿ابن مريم﴾ ليعلم أنه من غير أب وثبتت نبوته بالمعجزات ﴿يا بني إسرائيل﴾ فذكرهم بما كان عليه أبوهم من الدين وما أوصى به بنيه من التمسك بالإسلام، ولم يقل : يا قوم، كما قال موسى عليه السلام ؛ لأنه لا أب له فيهم وإن كانت أمه منهم، فإن النسب إنما هو من جهة الأب، وأكد لإنكار بعضهم فقال ﴿إني رسول الله﴾ أي : الملك الأعظم ﴿إليكم﴾ أي : لا إلى غيركم ﴿مصدقاً لما بين يدي﴾ أي : قبلي ﴿من التوراة﴾ التي تعلمون أن الله تعالى أنزلها على موسى عليه السلام، وهي أول الكتب التي نزلت بعد الصحف وحكم بها النبيون، فتصديقي لها مع تأييدي بها مؤيد، لأن ما أقمت من الدلائل حق ومبين أنها دليلي فيما لم أنسخه منها، كما يستدل بما قدامه من الإعلام ويراعيه ببصره. وقرأ أبو عمرو وابن ذكوان والكسائي بالإمالة محضة، وقرأ حمزة ونافع بين بين بخلاف عنه عن قالون، والباقون بالفتح ﴿ومبشراً﴾ في حال تصديقي للتوراة ﴿برسول﴾ أي : إلى كل من شملته الربوبية ﴿يأتي من بعدي﴾ أي : يصدق بالتوراة. فكأنه قيل : ما اسمه ؟
قال :﴿اسمه أحمد﴾ والمعنى : أرسلت إليكم في حال تصديقي ما تقدمني من التوراة، وفي حال تبشيري برسول يأتي من بعدي يعني أن ديني التصديق بكتب الله تعالى وأنبيائه جميعاً ممن تقدم وتأخر.
٢٩٣


الصفحة التالية
Icon